ليس جديداً على الإخوان!
"هناك فرق بين أن تطلب الحرية لخصمك السياسي وترفض اضطهاده وظلمه من السلطات القمعية، لأنك ترغب في الحرية والكرامة والعدالة لجميع أبناء وطنك، أياً كانت معتقداتهم أو مبادئهم، وبين أن تقع تحت تأثير التعاطف مع ما يتعرض له خصمك من اضطهاد، فتساهم في تجميل تاريخه القبيح، وتقوم بتمييع الاختلاف السياسي القائم بينك وبينه، والذي لن يتطور المجتمع إلا حين نقوم بتعميق ذلك الاختلاف وتجذيره، دون أن نقع في فخ تبرير القمع والقتل".
قلت هذا الكلام لصديق لي كتب على حسابه في "فيسبوك" يتشكك في مصداقية وتوقيت وطبيعة حملات التخوين التي تبادلها بعض أعضاء ومؤيدي جماعة الإخوان، رداً على مبادرات أطلقها بعض المعتقلين من أنصار التيارات الإسلامية وأهاليهم وذويهم، تدعو إلى إعلان مصالحة مع النظام يخرج بمقتضاها المعتقلون الملتزمون بذلك من السجون، مقابل شروط اختلفت من مبادرة لأخرى، وهي مبادرات أشك أن نظام السيسي الذي يملؤه زهو الانتصار بالقمع يمكن أن يلقي لها بالاً، ويمكن أن يتجاوب معها إلا بتوظيفها الأمني والسياسي، لكن صديقي الراغب في التعلق بأي قشة تنجيه من الغرق في الإحباط، تعامل مع المبادرات بجدية بالغة، وبدأ يشكك في طبيعة الحملات الإخوانية التي تهاجم تلك المبادرات، متهماً من يفعل ذلك بالتواطؤ مع ضباط الأجهزة السيادية الراغبين في غلق أي منفذ سياسي للتغيير، ولذلك أرسلت إليه هذه السطور التي أدعوك لقراءتها معه:
"أعذرك عندما تظن دائما بالإخوان كل الإخوان خيراً، فتعتبر أن التصريحات العنيفة التي يطلقونها بحق الآخرين بل وبحق بعضهم البعض هي دون شك من فبركات الصحافة، فأنت تحسب الإخوان دائماً على ما يرفعونه من شعارات دينية، وتنسى أنهم بشر، ولذلك كلما قال أحد منهم تصريحا مسيئا في حق أحد أبناء جماعته المختلفين معه استغرب الناس، كما استغربوا على سبيل المثال لا الحصر التصريح الذي ورد على لسان السيد محمود غزلان في حق رفيق جماعته الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عندما اتهمه بأنه نقض العهد مع الله، لأنه قرر ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية مخالفة لأوامر الجماعة، مع أن أياً من هؤلاء لو قرأ تاريخ جماعة الإخوان لعرف أن الحدة في الخلاف إلى حد الشطط أمر معتاد بين الإخوان، خصوصاً في الأوقات التي يتمكنون فيها أو يستقوون، بعكس الأوقات التي يتعرضون للاضطهاد فيها، فهم كأي جماعة بشرية سياسية توحدها المحن، وتشتعل الخلافات بينها عند الاقتراب من السلطة.
دعني أعطيك مثالاً قبل أن تتهمني بالتجني على هذه الجماعة التي ترفع شعار (الرسول قدوتنا)، ما رأيك في المرشد الثاني للجماعة المستشار حسن الهضيبي؟ لعلك أعجبت بمنهجه المقاوم للتكفير في كتابه الشهير "دعاة لا قضاة" بغض النظر عما يثيره البعض حول تفاصيل وملابسات تأليف ذلك الكتاب، ولعلك تعلم أن المستشار الهضيبي شخصية محورية في تاريخ الإخوان لا يختلف الآن حولها كثير منهم، طيب ما رأيك في أن تقرأ مثلا عن تاريخ الخلافات التي ثارت بينه وبين عدد من قادة الإخوان عقب قيام ثورة يوليو مباشرة، ما رأيك مثلا في الشيخ محمد الغزالي، هذا العالم الجليل الذي يسكن عقل ووجدان كل من قرأ كتبه حتى لو كان غير منتمٍ إلى الإخوان، هل تعلم أنه كان عضواً بارزاً في الإخوان، وأن الهضيبي قام بفصله خلال فترة خلافه الشرس مع الجهاز السري الذي تزعمه عبد الرحمن السندي؟ وهل تعلم أن الشيخ الغزالي رد على قرار الهضيبي بكتابة مقالات اتهم فيها الهضيبي صراحة بالماسونية، وقال إن حركة الماسونية العالمية نجحت في زرع الهضيبي وتنصيبه مرشدا عاما للإخوان دون أن يقدم دليلا على ذلك، وحاشا للهضيبي أن يكون ماسونيا لكنها النفس البشرية التي جعلت من هم أعظم بكثير من الغزالي والهضيبي كصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يقتتلون فيما بينهم لمجرد أن كلاً منهم رأى أنه يمتلك الحقيقة المطلقة.
للاستزادة راجع من فضلك مذكرات القطب الإخواني المستشار الدمرداش العقالي التي كتبها الأستاذ سليمان الحكيم في كتاب (أسرار العلاقة الخاصة بين عبد الناصر والإخوان المسلمين)، وفيها أيضا ستقرأ كيف قام عبد الناصر بإذكاء نيران الخلاف بين الهضيبي والسندي، وحاول السندي إطاحة الهضيبي بتحريض من عبد الناصر ردا على اعتراض الهضيبي على قانون الإصلاح الزراعي، حيث قام بإرسال مجموعة من الجهاز الخاص إلى منزل الهضيبي لتجبره على توقيع استقالة من منصب المرشد، وقام الهضيبي بخداع المجموعة ولجأ إلى البوليس الذي طردها من بيته لتعود إلى المركز العام وتبلغ السندي بفشل مهمتها، ثم يفاجأ الجميع بجموع من الإخوان تسد الشوارع المؤدية إلى المركز العام.
جاء في نص شهادة الدمرداش الآتي: "وتعالت هتافاتهم تطالب بإهدار دمنا، لقد وجدنا أنفسنا محاصرين بتلك الجموع الكبيرة التي تطالب بقتلنا.... كان السندي قد أعد العدة لمثل هذا الموقف المحتمل، فأمر مجموعة من أنصاره بحمل المدافع الرشاشة واحتلال سطح المبنى المقابل لمبنى المركز العام وكان مخصصا لجريدة الإخوان، حتى إذا نجح الهضيبي في تأنيب أنصاره وتحريكهم ضدنا، تعامل معهم أنصارنا من حملة المدافع ـ لاحظ أن كلمة مدفع بلغة تلك الفترة كانت تطلق على السلاح الآلي ـ وحتى لا تقع مذبحة لا نريدها، أمسك السندي بميكرفوون وأخذ يطالب الجموع بالتفرق وإلا فسوف تحصدهم المدافع من فوق أسطح المنازل"، ثم يروي العقالي أن الذي أنقذ الموقف هو تدخل كل من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد العزيز كامل الذين اخترقوا الحصار المضروب حول المركز وقاموا بحل الأزمة التي خرج الهضيبي منها قويا ليقوم بفصل قادة وأنصار التنظيم السري.
بالطبع قد تسمع كلاما من بعض قادة الإخوان أو قواعدهم يطعن في شهادة المستشار الدمرداش العقالي، تماماً كما حدث مع كل القيادات الإخوانية التي رفضت "أسطرة" الجماعة أو تقديم صورة قدسية لها تخالف الصورة البشرية المعتادة لأي تنظيم بشري يختلف فيه الناس إلى درجة الشطط والجموح، وتغرهم أهواء الدنيا ونزعاتها، خصوصا عندما يتصرفون في عملهم العام من منطلق الإحساس بقوة الفكرة الدينية التي يعتنقونها ويضحون من أجلها، وبناءً عليه قد يقعون في تصورات خاطئة تجعلهم يتماهون في قدسية المعتقد الذي ينتسبون إليه، وربما لذلك لا تجدهم يمارسون النقد الذاتي إلا نادراً، حرصا منهم على عدم إلحاق الضرر بالمبادئ التي يرفعون شعاراتها، وإن مارسوا ذلك النقد فهم لا يعترفون بأخطائهم أمام الناس بل يحرصون دائما على التبرير، وتصوير أنهم مضطهدون تعرضوا للتحريف والتشويه، وتجد بعض قواعدهم تنطلق في كل اتجاه، لتفسر كل انتقاد لهم بأنه حملة على الإسلام ومبادئه، يقودها أناس يكرهون الإسلام ويتمنون زواله، أرجوك اقرأ التعليقات التي يتم نشرها في أي مكان على الإنترنت على أي مادة تحمل هجوما على الإخوان أو انتقادا لهم، حتى لو كان الأمر يخص واقعة مثل التصريحات العجيبة التي أدلى بها المحامي صبحي صالح والتي لم يكن يضيره أن يعتذر عنها على الملأ، بدلا من أن يلجأ للقول إنه كان "يهزّر" فيوقع نفسه في مطب أكبر هو استخدامه لآية قرآنية في معرض الهزار، وهو خطأ لو وقع فيه معارض للإخوان وهو ينتقدهم لما سلم من ألسنتهم أبدا.
هل تظن أنني أريد وصف كل الإخوان بأنهم جماعة من الشتامين الطعانين في كل من يختلف معهم من داخلهم أو من خارجهم؟ أعوذ بالله، فمن أنا لأصدر حكماً عاماً على جماعة من البشر هم أنفسهم الذين أذاعوا على كافة مواقعهم ما قلته عنهم من كلام يعترف لهم بالفضل في موقعة الجمل، ويومها بالمناسبة كتب لهم أخ منهم تعليقا يقول: "ومن هذا العلماني الذي تلجأون إلى شهادته وتفخرون بها"، وأظنهم الآن يقولون له: "أصبت وأحسنت ولن نكررها ثانية بإذن الله".
ما أريد أن أقوله لك ببساطة أن الإخوان جماعة بشرية تحمل بداخلها كل أمراض مجتمعنا وثقافتنا، فضلا عن أمراض النفس الإنسانية الأمارة بالسوء، ومشكلة الإخوان أنهم قرروا أن يعطوا لأنفسهم وضعا خاصا بأن يخوضوا الصراعات السياسية بغطاء ديني يجعل أي هفوة أو خطأ يرتكبه أحد منهم أمرا يستحق التوقف عنده طويلا من الجميع، ولو أنهم حذوا حذو الأحزاب السياسية التي تعتمد المرجعية الإسلامية في فكرها وثقافتها دون أن تصدّر الإسلام في شعاراتها، وتستخدمه في اللعبة السياسية مثل حزب العدالة والتنمية التركي لأراحوا واستراحوا، لكنهم يعلمون جيدا أنهم لو فعلوا ذلك سيفقدون الميزة التنافسية الأبرز التي يروجون بها لأنفسهم بين الناس في خطبهم وأدبياتهم، بل وحتى في أناشيدهم التي يصفون أنفسهم فيها بأنهم "جند الله"، ومن الذي يجرؤ في بلاد تعودت على الثنائيات أن يختلف مع جند الله سوى الذين يتسلحون بالمعرفة والدراية ولا يهابون من الشعارات الطنانة ولا يتخذون من الدين سبيلا للمكاسب السياسية الرخيصة وفوق كل هذا وذاك يحتسبون عند الله ما يتعرضون له من تكفير وشتائم حتى لو أحزنهم أن ترد من أناس يقولون أن الله غايتهم والرسول قدوتهم.
هذا، وعلى الله قصد السبيل، ومنها جائر، ولو شاء لهداكم أجمعين".
كنت قد نشرت هذه السطور في مقال نشرته بتاريخ 30 مايو 2011 في صحيفة (المصري اليوم)، وقد جرت منذ ذلك الوقت في النهر مياه ودماء كثيرة، لا زلت أذكر الكثير من التعليقات الغاضبة التي اتهمتني بالتحامل على الإخوان وتصيد الأخطاء لهم، والكثير من التعليقات التي تتهمني بأنني لم أهاجمهم بما فيه الكفاية، وأعتقد من خلال رصدي المتواضع لما يجري ـ على الفضاء الافتراضي المتاح لي ـ أن أغلب أصحاب المواقف المتشددة لا زالوا متحجرين في مواقعهم، لكن وطأة الواقع المرير أجبرت عدداً لا يستهان به ممن أعرفهم وأتابعهم على تبني خطاب سياسي واقعي بعيد عن الشعارات الجامدة، وأن المستقبل الذي يبحث عنه هؤلاء، لن يكون إلا بتطوير خطاب عقلاني مدني مسيّس يخرج بمصر من ثنائية الإخوان والعسكر اللعينة، وينجو بمصر من فتك الشعارات الوطنية والإسلامية التي "جابتنا ورا"، ولا تزال وستظل.