عاشت الفنانة المصورة الفوتوغرافية ليلى العلوي، عن قرْبٍ حدثين إرهابيين في حياتها القصيرة: فقد كانت خلال أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2011 في نيويورك تدرس علم الاجتماع والتصوير الفوتوغرافي، كما كانت في باريس عند الهجوم الأخير على المدينة يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. أكان يخطر في بالها أنها في هذا اليوم من منتصف يناير/كانون الثاني، في مطعم فندق "سبلونديدي" بـ واغادوغو في بوركينا فاسو ستتعرض لإطلاق النار من قبل أولئك الذين كانت تناضل ضدّهم بكل ما أوتيت من خيال وجهد وصور؟
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، زرت معرضا مهمًا في سيدي بوسعيد بتونس عن التصوير الفوتوغرافي المعاصر في العالم العربي، شاركت فيه ليلى العلوي. كانت بورتريهاتها الجذابة لمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، تستقبلنا في قاعة العرض الجديدة. هذه البورتريهات، التي كانت قد عرضتها قبلًا بالعاصمة الأرجنتينية، تحول الألم والمعاناة إلى أنفة وسمو وجمال وجلال. ذلك هو السحر الذي كانت تطبعه ليلى العلوي على كائناتها؛ تتملّكها، وتضفي عليها روعة تجعل تلك الوجوه والكيانات رموزًا لشيء يتجاوزها.
ربما كان للأعمال السوسيولوجية التي درستها ليلى العلوي، ولعشقها الصورة التوثيقية، أثرٌ كبيرٌ على الطريقة التي ستنهجها لبناء "أسلوبها" وبلورة بصمتها الفنية. كانت تجربتها مع المغاربة مغامرة خصوصية، فقد أنجزت ليلى مشروع "المغاربة" منذ سنوات. وسعت من خلال تلك التجربة إلى بناء هوّيتها البصرية وعبرها هوية انتمائها، هي الفنانة المغربية الفرنسية. لكأنها أدركت أن المشاريع الكبرى لا تمرّ إلا من خلال الموضوعات الكبرى. هكذا، وسيرًا على هدي المصور الفوتوغرافي الأميركي روبرت فرانك في ألبومه "الأميركيون"، سنة 1958، ومواطنه ريتشارد أفيدون الذي اشتهر ببورتريهاته بالأبيض والأسود، سوف تزاوج ليلى بين التوثيقية وجماليات الواقعية.
اقرأ أيضًا : الصورة والموت المعلن
حين بدأت مشروعها عن "المغاربة"، الذي بوّأها مكانتها العالية في الوسط الفني، كانت ليلى تستهدف تفكيك النزعة الغرائبية (Exotique) التي تحكّمت في تصوير الآخر، وكانت تسعى من ناحية أخرى إلى بناء نظرة مغايرة تنبثق من الداخل. لهذا الغرض لجأت الفنانة الشابة إلى التسلح باستوديو متنقل، عازفةً عن اصطياد الصور أو ملاحقتها، مفضلةً أن تخترق محاذير التصوير التي لا تزال حيّة في المتخيّل الشعبي. وهكذا، ومن خلال الوضعية والبورتريه الجسماني الكامل، صارت تلك الشخصيات البسيطة ترْفل في عالم من الدهشة.
وكأننا بعين ليلى العلوي تعيد خلقها وتمنحها بهاء قلَّ نظيره.
كانت هذه التجربة مسعى صعبًا ومركّبًا، يدخل في حقيقته إلى حد كبير في رهان حمَلتْه كثيرات من الفنانات المغاربيات، اللاتي كن يسعين لتفكيك الرؤية الإيكزوتيكية (Exotique) والاستشراقية التي لا تزال تهيمن على نظرتنا لأنفسنا، وتولّد ضربًا من الاستشراق الداخلي، ومن بينهن التونسية مريم بودربالة، والمغربيتان للا السعيدي ومجيدة الخطاري.
لم تندرج ليلى العلوي أبدًا في لعبة النسْوانية وهوسها الجنْدري، كغيرها من الفنانات والمصورات. ولم تغوها أبدًا قضايا الحميمية التي صارت تهيمن على الفن المعاصر. كانت وجهتها اجتماعية وكونية. لذلك اهتمت دومًا بالقضايا الراهنة والحارقة كالحروب والتهجير، والهجرة سواء من إفريقيا باتجاه أوروبا سعيًا وراء أحلام وأوهام الرخاء، أو قسرًا من سورية والعراق هربًا من الحرب الطاحنة هناك.
اقرأ أيضًا : منيرة الصلح، شهرزاد بصرية
استقرت ليلى العلوي في لبنان منذ سنتين أو أكثر قليلًا، إذ كانت قد اشتغلت قبلذاك فيه. وفي لبنان عملت على مشروعها "عبور" الذي مكّنها من تجاوز فن التصوير الفوتوغرافي كوسيط وحيد، لتدخل عالم الفن المعاصر من أوسع أبوابه. هكذا أدركت الفنانة الشابة أن العين الفوتوغرافية لا تكفي وحدها للإمساك بعمق وشساعة وشرنقة المأساة الإنسانية. وكان المشروع الذي قدمته للصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) هو القسم الثاني من هذا العبور الذي يهتم بالسوريين العابرين إلى لبنان باتجاه وجهات غامضة.
في ما لا يزيد عن العقد، استطاعت ليلى العلوي فرض نفسها كمصورة ذات توقيع خاص، سواء في اشتغالها مع المنظمات الدولية، أو في مشاريعها الفنية. هي المرأة التي حققت في عشر سنين ما عجز فنانون كثيرون من مجايليها أن يحققوه، لا في مجال الممارسة الفنية ولكن أيضًا في الاختيارات والتحولات التي تفترضها.
أتخيلها بشعرها الأسود الداكن وبسمتها الخفية، بنظرتها التي تنقل من الوداعة إلى الصرامة، كما بطريقة كلامها البشوشة، هناك قبل أن تتنزَّل عليها كارثة القدر. كتب عنها الطاهر بنجلون قائلًا بحرقة: "لا موهبتها ولا ذكاؤها ولا حساسيتها ولا جمالها كان حماية لها. ليلى العلوي، الفنانة المولعة بفنّها، التي كانت تعرف كيف تكشف عن الواقع خلف المظهر، وكيف تبرز روعة جسد خلف حجاب الأحكام المسبّقة، وكيف تمنح الحياة للنظر بآلامها ولحظات سحرها، كانت ضحية للشراسة المتوحشة، في لحظة لم يكن ليتوقعها أحد".
كتبت من وقت أن ثمة صورًا تقتل، لكنني لم أنس أبدًا أن ثمة من يقتل الصور والمصورين، لأنهم يمثلون الآخر، ذلك الذي يمثّل المرآة التي تكشف بشاعتهم. لا شيء يبرر قتل الكائن الإنساني في جمال وجوده على البسيطة إلا بشاعة الاعتقاد، والحقد على الحياة من حيث هي كذلك.
اقرأ أيضًا: صفاء الرواس، صمت الجسد الرمزي
وإذا كان ثمة من يصنع الحياة ويخلقها في سريرته وعمله، فثمة من يسعى إلى إعدامها. لن نبكي ليلى العلوي إلا في دواخلنا. فثمة في أعمالها الكثير من السلوان. هي شهيدة التصوير والفن، التي لم تتصوّر يومًا أن تكون هناك، حيث يكون العمى عبارة عن فوّهة رشاش بالمرصاد لكل ما ينبض بالحياة.
ربما كان للأعمال السوسيولوجية التي درستها ليلى العلوي، ولعشقها الصورة التوثيقية، أثرٌ كبيرٌ على الطريقة التي ستنهجها لبناء "أسلوبها" وبلورة بصمتها الفنية. كانت تجربتها مع المغاربة مغامرة خصوصية، فقد أنجزت ليلى مشروع "المغاربة" منذ سنوات. وسعت من خلال تلك التجربة إلى بناء هوّيتها البصرية وعبرها هوية انتمائها، هي الفنانة المغربية الفرنسية. لكأنها أدركت أن المشاريع الكبرى لا تمرّ إلا من خلال الموضوعات الكبرى. هكذا، وسيرًا على هدي المصور الفوتوغرافي الأميركي روبرت فرانك في ألبومه "الأميركيون"، سنة 1958، ومواطنه ريتشارد أفيدون الذي اشتهر ببورتريهاته بالأبيض والأسود، سوف تزاوج ليلى بين التوثيقية وجماليات الواقعية.
اقرأ أيضًا : الصورة والموت المعلن
حين بدأت مشروعها عن "المغاربة"، الذي بوّأها مكانتها العالية في الوسط الفني، كانت ليلى تستهدف تفكيك النزعة الغرائبية (Exotique) التي تحكّمت في تصوير الآخر، وكانت تسعى من ناحية أخرى إلى بناء نظرة مغايرة تنبثق من الداخل. لهذا الغرض لجأت الفنانة الشابة إلى التسلح باستوديو متنقل، عازفةً عن اصطياد الصور أو ملاحقتها، مفضلةً أن تخترق محاذير التصوير التي لا تزال حيّة في المتخيّل الشعبي. وهكذا، ومن خلال الوضعية والبورتريه الجسماني الكامل، صارت تلك الشخصيات البسيطة ترْفل في عالم من الدهشة.
وكأننا بعين ليلى العلوي تعيد خلقها وتمنحها بهاء قلَّ نظيره.
كانت هذه التجربة مسعى صعبًا ومركّبًا، يدخل في حقيقته إلى حد كبير في رهان حمَلتْه كثيرات من الفنانات المغاربيات، اللاتي كن يسعين لتفكيك الرؤية الإيكزوتيكية (Exotique) والاستشراقية التي لا تزال تهيمن على نظرتنا لأنفسنا، وتولّد ضربًا من الاستشراق الداخلي، ومن بينهن التونسية مريم بودربالة، والمغربيتان للا السعيدي ومجيدة الخطاري.
لم تندرج ليلى العلوي أبدًا في لعبة النسْوانية وهوسها الجنْدري، كغيرها من الفنانات والمصورات. ولم تغوها أبدًا قضايا الحميمية التي صارت تهيمن على الفن المعاصر. كانت وجهتها اجتماعية وكونية. لذلك اهتمت دومًا بالقضايا الراهنة والحارقة كالحروب والتهجير، والهجرة سواء من إفريقيا باتجاه أوروبا سعيًا وراء أحلام وأوهام الرخاء، أو قسرًا من سورية والعراق هربًا من الحرب الطاحنة هناك.
اقرأ أيضًا : منيرة الصلح، شهرزاد بصرية
استقرت ليلى العلوي في لبنان منذ سنتين أو أكثر قليلًا، إذ كانت قد اشتغلت قبلذاك فيه. وفي لبنان عملت على مشروعها "عبور" الذي مكّنها من تجاوز فن التصوير الفوتوغرافي كوسيط وحيد، لتدخل عالم الفن المعاصر من أوسع أبوابه. هكذا أدركت الفنانة الشابة أن العين الفوتوغرافية لا تكفي وحدها للإمساك بعمق وشساعة وشرنقة المأساة الإنسانية. وكان المشروع الذي قدمته للصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) هو القسم الثاني من هذا العبور الذي يهتم بالسوريين العابرين إلى لبنان باتجاه وجهات غامضة.
في ما لا يزيد عن العقد، استطاعت ليلى العلوي فرض نفسها كمصورة ذات توقيع خاص، سواء في اشتغالها مع المنظمات الدولية، أو في مشاريعها الفنية. هي المرأة التي حققت في عشر سنين ما عجز فنانون كثيرون من مجايليها أن يحققوه، لا في مجال الممارسة الفنية ولكن أيضًا في الاختيارات والتحولات التي تفترضها.
كتبت من وقت أن ثمة صورًا تقتل، لكنني لم أنس أبدًا أن ثمة من يقتل الصور والمصورين، لأنهم يمثلون الآخر، ذلك الذي يمثّل المرآة التي تكشف بشاعتهم. لا شيء يبرر قتل الكائن الإنساني في جمال وجوده على البسيطة إلا بشاعة الاعتقاد، والحقد على الحياة من حيث هي كذلك.
اقرأ أيضًا: صفاء الرواس، صمت الجسد الرمزي
وإذا كان ثمة من يصنع الحياة ويخلقها في سريرته وعمله، فثمة من يسعى إلى إعدامها. لن نبكي ليلى العلوي إلا في دواخلنا. فثمة في أعمالها الكثير من السلوان. هي شهيدة التصوير والفن، التي لم تتصوّر يومًا أن تكون هناك، حيث يكون العمى عبارة عن فوّهة رشاش بالمرصاد لكل ما ينبض بالحياة.