لم يكن المطرب الجزائري ليلي بونيش الذي غادر عالمنا قبل عشر سنوات مجرّد فنان، فهو حالة فنية وإنسانية مركبة، تجاوزت الأنواع الموسيقية واللغات، بحثاً عن لغة إنسانية مشتركة.
قبل أن يبدع مناصرون مجهولون في عالم الرياضة عبارة "One, Two, Three, Viva l'Algérie" التي تمتزج فيها اللغة الفرنسية والإيطالية والإنكليزية، وتعني "تحيا الجزائر"، في مقولة تتجاوز لغات الشعوب إلى لغة القلب، كان المطرب الجزائري الراحل ليلي بونيش يتفنّن في التغني بحب الجزائر وفق المنطق الفني نفسه، وبمزيج بين العربية والفرنسية، فيبدأ أغنيته باللغة الفرنسية "J’aime toutes les villes et un peu plus Paris" (أحب المدن كلها، وأحب باريس بدرجة أكبر قليلاً)، حتى يكاد المستمع يقتنع أن المغني يهيم عشقاً بباريس دون سواها، ليفاجئه بالقول "لكن ماشي بحال L’Algérie" (لكن ليس مثل الجزائر).
إنها قصة حب عابر للغات والحدود، بدأت في قصبة مدينة الجزائر العتيقة سنة 1921، ولم تنته بوفاته وراء الضفة الأخرى من المتوسط يوم 6 آذار/ مارس 2008 في باريس التي أحبها لكن "لكن ماشي بحال L’Algérie".
نشأ الطفل "إيلي" الذي اشتهر بعد ذلك باسم "ليلي بونيش" على حب الموسيقى الأندلسية والشرقية عموماً، وساعده والداه على ذلك عندما أرسلاه إلى معلّمه الأول، أستاذ الموسيقى الأندلسية الكلاسيكية سعود الوهراني، ليتدرب ذلك الصوت الخام على مختلف الطبوع وشيئاً فشيئاً بدأ يمتلك خصوصيته التي حافظ عليها إلى أن بلغ أعلى درجات الشهرة والنجاح وغنى في قاعة "الأولمبيا" الفرنسية، في المكان المخصص لعمالقة الموسيقى العالمية.
لقد كان مصير ليلي مرتبطاً بالثنائيات التي يراها البعض تناقضاً وكان يراها هو تكاملاً، ففي صوته تمتزج الخشونة الرجولية بالنعومة الوجدانية، كما تمتزج في كلمات أغانيه الفرنسية بالعربية الفصحى وعربية الجزائر العاصمة التي نشأ فيها وأتقن لهجتها. ولا عجب إن جاء ذلك الخليط اللغوي انسيابياً لا رطانة فيه.
وتستمر تلك الثنائيات مع الفنان ليلي بونيش إلى أن يحوّل الصمت إلى حالة إبداعية مثلما فعل مع الغناء. فحينما ابتعد عن الجزائر أصيب بحالة صمت امتدت سنين طويلة حتى اعتقد الناس أنه هجر الفن إلى الأبد، لكنه مع نهاية ثمانينات القرن الماضي فاجأ الجميع بعودته القوية إلى مسارح الغناء في حالة نضج فني كبير فأطرب جمهوره القديم واكتسب جمهوراً جديداً انطلاقاً من مقر إقامته في باريس، وتجاوز عزلته الطويلة تلك ليعود إلى عالم الأضواء من جديد وهو في سن الشيخوخة.
ومع أن ليلي نشأ في عائلة يهودية جزائرية بقصبة الجزائر العاصمة، لم يكن يحب أن يدرج ضمن لائحة "اليهود المغاربيين" أو "اليهود العرب"، وكان يجيب ساخراً إن كان الفن يرتبط بالعرق أم بالديانة؟ وكيف يمكن تقسيم الفنانين الذين يؤدون طابعاً موسيقياً واحداً إلى نصارى ويهود ومسلمين؟ لكنه يصرّ على أنه كان يؤدي موسيقى عربية شرقية بمعزل عن الأعراق والأجناس التي جنت على هذا الفن وكانت النتائج وخيمة، دفع ثمنها هذا الفنان رغم أنه لم ينخرط في الخطاب العنصري.
عندما كان ليلي طفلاً، بدأت ثورة موسيقى "الشعبي"، لمّا أنزل الحاج محمد العنقى الموسيقى الأندلسية الكلاسيكية من نخبويتها إلى مقاهي الجزائر العاصمة العتيقة، فكان ليلي منسجماً جداً مع هذا التوجه الجديد، وأتقن العزف على آلة "الموندول" التي أصبحت جزءاً أساسياً من الموسيقى الشعبية لمدينة الجزائر، وامتلكت مكانة خاصة جداً و"تجزأرت" وهي القادمة من إيطاليا.
لم يكتف بالغناء فقط، بل ساهم في نشر الثقافة الموسيقية عندما قدّم وهو في سن الخامسة عشرة برنامجاً في الإذاعة يهتم بموسيقى "الحوزي" الأندلسية المنشأ، فتطوّر حسه الفني وامتلك تلك البصمة الموسيقية الخاصة، متجاوزاً الأعراق واللغات، ولم يتوقف عن تعميق تجربته الفنية حتى وهو في سن الشيخوخة.
في باريس التي أقام فيها في الجزء الثاني من حياته، بحث عن مصادر موسيقية أخرى واستلهم من الباسكودوبلي والرومبا والتانغو دون أن يتخلى عن خيارته الموسيقية الأولى وكان يتجدد باستمرار، وحتى وهو صامت في عزلته الطويلة كان يعمّق تجربته الفنية، التي أزال من خلالها الحاجز بين ضفتي البحر المتوسط، وأدى نوعاً من الموسيقى المتوسطية ذات النكهة الأندلسية والشرقية بكثير من الأصالة الإبداعية، ولم يسقط في المستنقع العنصري إلى أن انطفأ وهو في سن السابعة والثمانين بعيداً عن الجزائر.
رحل ليلي بونيش قبل عشر سنين، لكن إبداعاته بقيت شاهدة على عصر مضى، عصر جزائر، رغم ظلم الاستعمار الفرنسي بقيت تبدع موسيقياً وأنجبت الكثير من الأعلام في شتى الميادين. ورغم أن تراث هذا الفنان الكبير غير متوفر حالياً في الأسواق ونحن في عصر آخر مختلف تماماً، لكنها متوفرة بشكل كبير على موقع "اليوتوب" لمن يريد أن يستمتع بذلك الفن العابر للأعراق واللغات، والذي كانت نتيجة قصة الحب التي قادها الراحل ليلي بونيش الذي لم يخن يوماً رسالته الفنية.