في وطننا العربي، عندما يرتكب السياسي خطأ ما، يلام المثقف وحده، بسبب صمته المدوّي، بل ويُتهم بأنه يبارك استبداد السلطة، بعد أن تخلّى عن ضميره الإنساني، ودوره التاريخي، وتحوّل إلى مجرد بوق، وإلى مهرج في بلاط السلطان، وارتضى لعب أدوار الكومبارس في المشهد السياسي، تاركًا أدوار البطولة المطلقة للسلطة، لكي يعيش في كنفها، ويتمرغ في نعيمها. وهكذا، وبعد موت "المثقف العضوي"، الذي يفترض أنه ضمير الأمة، استحال أن يتكرّر نموذج مثقّف عربي، على غرار أنطونيو غرامشي، ذلك "المثقف العضوي"، المهموم بقضايا عصره وآلام الكادحين، الذي آمن بدور المثقف وقدرته على التغيير. أو مثقف على غرار جان بول سارتر، "المثقف الملتزم"، الذي قاد المظاهرات الاحتجاجية في الشوارع، ودافع عن المضطهدين وضحايا الاستعمار، وندّد بالحرب الفرنسية الهمجية على الجزائر.
من يقرأ التاريخ العربي بتمعّن، سيكتشف ثلاثة أساليب للتمرّد على الواقع الرديء، وإعلان رفضه؛ ثلاثة أساليب تجنح نحو الهروب، قد تكون سلبية وانهزامية، تفاديًا للاصطدام مع السلطة الجائرة : التصوف والرهبنة، المجون والخلاعة، والسخرية، وهذه الأخيرة سلاح من لا سلاح لهم، سلاح سلمي لا يملك عامّة الناس سواه، بعد أن خذلهم ضميرهم الإنساني، ومن يفترض أنهم أشباه الأنبياء والرسل، فقاوموا من خلال النكتة، بطشَ السلطة، وراحوا يروحون بها عن أنفسهم، وينتقمون من ظالميهم، بينما النخبة المدجنة تترنح على أعتاب مجالس اللهو. لا نتعّجب اليوم حين نرى المثقّفين العرب، وقد انقسموا إلى فريقين: فريق يعيش في برج عاجي، مترفعًا عن آلام الشعوب وقضاياها المصيرية، تحت ذريعة استقلالية المثقف وعدم تسييس الثقافة، وفريق "عديم الفاعلية"، وآخر براجماتي، انتهازي، وصولي، خائن، يجمّل بمساحيق الصمت المدوّي وجه الاستبداد القبيح، مواصلًا لعب الدور التاريخي لأسلافه من شعراء البلاط، ووعاظ السلاطين.
في دراسته "المثقف والسياسة والاستبداد"، يصف محمود صبري أزمة المثقف العراقي في عصرنا المأزوم في كونه "يعيش صراعه الثقافي الحياتي منقسمًا بين عالمين مختلفين من الوجود المادي. فهو في داخل الوطن محاصر بإطار مظلم من العنف والاستبداد والتسلط الأيديولوجي والتعمية، وهو في المنفى، مرغمٌ على ممارسة صراعه في ظروف من الغربة والتشرد وعدم الاستقرار والمعاناة. غير أن مشكلته تقترن، أيضًا، بعوامل أخرى جوهرية". ومشكلة المثقف - في نظره- الذي يعي دوره الاجتماعي، أو كما يسميه بـ "المثقف الجهادي" هي أكثر تعقيدًا، لأنه أدرك منذ البداية ضرورة وأهمية مزج صراعه من أجل حرية الفكر والتعبير، مع الصراع المجتمعي الأوسع. ولكي ينتقل من النظرية إلى التطبيق، ويؤدّي دوره كقوة فكرية - روحية فعّالة في ميدان الصراع السياسي، اقترح على المثقف أن يدخل هذا الميدان انطلاقًا من مبدأ التكافؤ بين الثقافة والعمل، أي ينبغي أن يدخل الصراع كقوّة فكرية مستقلّة على نحو متكافئ مع القوى الأخرى، "كمركز قوة" جديد يتبنّى قضية المستقبل عبر نقد الإطار الفكري - الروحي الاجتماعي السائد للحاضر، وأن يدخل معترك العمل السياسي لا كسياسي محترف يهتمّ بالثقافة، بل كمثقّف محترف يهتمّ بالسياسة. هكذا يستطيع أن يحرر نفسه من خدمة "مراكز القوى".
وإذا توغلنا في قراءة المشهد العراقي، نجد د. سيّار الجميل يشرّح مأساة المثقف العراقي الذي عاش معاناة الاغتراب والتشرد، ويصف مثقفي العراق بأنهم كانوا يعيشون "أزمة وطن" في كلّ عهد من العهود السياسية السابقة، حيث تمّ تهميش المعارضين منهم، بمحق الاسم أو الإعدام أو سحق العظام، بينما كان يتمّ تكريم المقربين والمهرجين، ويعلى من شأنهم في المجتمع زيفًا وبهتانًا: "ولعل داء العراقيين المزمن هو انعدام تلاقيهم على مبادئ موحدة، وأخلاقيات متكافئة كما هو الحال عند بقية الأمم".
والوضع ليس أفضل في وطن عربي آخر، حيث صوّر كاتب ليبي، بسخرية لاذعة، المثقف العضوي المعاصر، الذي هو صاحب ثقافة الثواب والعقاب، الذي تتاح أمامه كلّ وسائل الإعلام، بينما يجلس مرددو مصطلح غرامشي بين الكتب، وفي المقاهي في دوائر تضيق كلّ يوم، يرطنون بالمصطلحات الأجنبية، مغتربين في أوطانهم، ليتحوّل مثقفهم العضوي إلى "خواجة" متخفٍ في سحنة بدوي مهاجر.
وفي مصر المحروسة، ولد الأمل من جديد، مع شباب مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبهم لا يجيد كتابة تعليق بعربية فصحى، نزلوا إلى الشوارع مطالبين بحقّهم في الحياة الحرّة الكريمة، لكن سرعان ما انقض "عواجيز" الثقافة على هذه الثورة، وتحالفوا مع السلطة الاستبدادية الجديدة، وقد وفق السيناريست المصري المخضرم "وحيد حامد" في فيلمه الأخير "قط وفار"، حين جعل المرأة المحبوبة من الجميع رمزًا للثورة، وعند موتها، انتزعت السلطة جثتها من الشعب، وحاولت أن تنسب أمجادها إليها.
من يقرأ التاريخ العربي بتمعّن، سيكتشف ثلاثة أساليب للتمرّد على الواقع الرديء، وإعلان رفضه؛ ثلاثة أساليب تجنح نحو الهروب، قد تكون سلبية وانهزامية، تفاديًا للاصطدام مع السلطة الجائرة : التصوف والرهبنة، المجون والخلاعة، والسخرية، وهذه الأخيرة سلاح من لا سلاح لهم، سلاح سلمي لا يملك عامّة الناس سواه، بعد أن خذلهم ضميرهم الإنساني، ومن يفترض أنهم أشباه الأنبياء والرسل، فقاوموا من خلال النكتة، بطشَ السلطة، وراحوا يروحون بها عن أنفسهم، وينتقمون من ظالميهم، بينما النخبة المدجنة تترنح على أعتاب مجالس اللهو. لا نتعّجب اليوم حين نرى المثقّفين العرب، وقد انقسموا إلى فريقين: فريق يعيش في برج عاجي، مترفعًا عن آلام الشعوب وقضاياها المصيرية، تحت ذريعة استقلالية المثقف وعدم تسييس الثقافة، وفريق "عديم الفاعلية"، وآخر براجماتي، انتهازي، وصولي، خائن، يجمّل بمساحيق الصمت المدوّي وجه الاستبداد القبيح، مواصلًا لعب الدور التاريخي لأسلافه من شعراء البلاط، ووعاظ السلاطين.
في دراسته "المثقف والسياسة والاستبداد"، يصف محمود صبري أزمة المثقف العراقي في عصرنا المأزوم في كونه "يعيش صراعه الثقافي الحياتي منقسمًا بين عالمين مختلفين من الوجود المادي. فهو في داخل الوطن محاصر بإطار مظلم من العنف والاستبداد والتسلط الأيديولوجي والتعمية، وهو في المنفى، مرغمٌ على ممارسة صراعه في ظروف من الغربة والتشرد وعدم الاستقرار والمعاناة. غير أن مشكلته تقترن، أيضًا، بعوامل أخرى جوهرية". ومشكلة المثقف - في نظره- الذي يعي دوره الاجتماعي، أو كما يسميه بـ "المثقف الجهادي" هي أكثر تعقيدًا، لأنه أدرك منذ البداية ضرورة وأهمية مزج صراعه من أجل حرية الفكر والتعبير، مع الصراع المجتمعي الأوسع. ولكي ينتقل من النظرية إلى التطبيق، ويؤدّي دوره كقوة فكرية - روحية فعّالة في ميدان الصراع السياسي، اقترح على المثقف أن يدخل هذا الميدان انطلاقًا من مبدأ التكافؤ بين الثقافة والعمل، أي ينبغي أن يدخل الصراع كقوّة فكرية مستقلّة على نحو متكافئ مع القوى الأخرى، "كمركز قوة" جديد يتبنّى قضية المستقبل عبر نقد الإطار الفكري - الروحي الاجتماعي السائد للحاضر، وأن يدخل معترك العمل السياسي لا كسياسي محترف يهتمّ بالثقافة، بل كمثقّف محترف يهتمّ بالسياسة. هكذا يستطيع أن يحرر نفسه من خدمة "مراكز القوى".
وإذا توغلنا في قراءة المشهد العراقي، نجد د. سيّار الجميل يشرّح مأساة المثقف العراقي الذي عاش معاناة الاغتراب والتشرد، ويصف مثقفي العراق بأنهم كانوا يعيشون "أزمة وطن" في كلّ عهد من العهود السياسية السابقة، حيث تمّ تهميش المعارضين منهم، بمحق الاسم أو الإعدام أو سحق العظام، بينما كان يتمّ تكريم المقربين والمهرجين، ويعلى من شأنهم في المجتمع زيفًا وبهتانًا: "ولعل داء العراقيين المزمن هو انعدام تلاقيهم على مبادئ موحدة، وأخلاقيات متكافئة كما هو الحال عند بقية الأمم".
والوضع ليس أفضل في وطن عربي آخر، حيث صوّر كاتب ليبي، بسخرية لاذعة، المثقف العضوي المعاصر، الذي هو صاحب ثقافة الثواب والعقاب، الذي تتاح أمامه كلّ وسائل الإعلام، بينما يجلس مرددو مصطلح غرامشي بين الكتب، وفي المقاهي في دوائر تضيق كلّ يوم، يرطنون بالمصطلحات الأجنبية، مغتربين في أوطانهم، ليتحوّل مثقفهم العضوي إلى "خواجة" متخفٍ في سحنة بدوي مهاجر.
وفي مصر المحروسة، ولد الأمل من جديد، مع شباب مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبهم لا يجيد كتابة تعليق بعربية فصحى، نزلوا إلى الشوارع مطالبين بحقّهم في الحياة الحرّة الكريمة، لكن سرعان ما انقض "عواجيز" الثقافة على هذه الثورة، وتحالفوا مع السلطة الاستبدادية الجديدة، وقد وفق السيناريست المصري المخضرم "وحيد حامد" في فيلمه الأخير "قط وفار"، حين جعل المرأة المحبوبة من الجميع رمزًا للثورة، وعند موتها، انتزعت السلطة جثتها من الشعب، وحاولت أن تنسب أمجادها إليها.