إنها الثالثة ظهراً وقت الغداء المنتظر في "الكامب الألماني". نزل محمد وعامر السلم في الوقت المحدد، فارغي المعدة، يتوجس أحدهما من أن يسمع الآخر قرقعة معدته، نبّههما أحد الشبان بإيماءة غامضة ألا يذهبا إلى المطعم، لم يصغيا طبعاً.
يفتحان البوابة الزجاجية للمطعم كمن يفتح الأندلس، يتقدمان بخطوات واثقة إلى السيدة الألمانية التي تقدم الطعام. سمينة، قصيرة القامة، صاحبة وجه محمر، وملامح ناشفة، يلقبها محمد بـ"همتي دمتي" القادم من بلاد العجائب، أما عامر فيذّكر نفسه في كل مرة يراها بأنها استثناء عن الفتيات الألمانيات اللواتي يعد نفسه بلقائهن.
خيرتهما بين الأرز وشيء آخر اعتقدا بأنه زلابية فاختاروها، وضعت لكل منهما ثلاث قطع، وصبّت معها مرقة شديدة الحمرة مع حبات من الكرز. حاولا إقناع نفسيهما بأنها تشبه اللحمة بالكرز. حملا أطباقهما وتوجّها إلى الطاولة، كان فضول محمد يصارع جوعه عندما التهم القطعة الأولى، تغيرت ملامحه وأخرجها من فمه مع كلمات غير مفهومة، اعتبرها عامر شتائم.
بخيبة أمل وغضب لم يشأ الشابان إظهاره أعادا الصينيّتين، وضعاها إلى جانب عشرات الصواني التي بقيت مليئة على غير عادة، وبالرغم من أن هذا الكامب يضم العديد من الثقافات، سوريين وعراقيين وألبان وأفارقة وأفغان، إلا أن الطعام لم يعجب أحداً ذلك اليوم.
في الساحة يتكىء محمد على حائط المبنى، يبدأ بلف سيجارته، يتساءل في نفسه: أيعقل أن يكون المطبخ الألماني على هذا النمط لا سمح الله! يشفط الدخان بشراهة لرئتيه ثم ينفثه بقوة، يراقب الناس التي تخرج خائبة من المطعم. مشاركة الخيبة مع الآخرين تشعره بشيء من المواساة، هو الذي اعتاد النظر في وجوه من حوله كلما سمع أصوات القذائف تدق حيه في حلب.
ينهر ولد في وجه والده مردداً "تحمّلوا تحمّلوا... ستحظون بأفضل طعام وأفضل سكن، أهذا ما وعدتنا به! بالله رد عليّ لماذا نعيش هكذا!" فيرد عليه الأب بحسرة : لقد وقعنا في الفخ، هذه ليست ألمانيا التي كنا بها موعودين. يتمتم محمد "وعلى الأرائك متكئين".
لم يمض أسبوع، حتى وجد اللاجئون الطبق نفسه في المطعم، كانوا قد اتفقوا على تسميته مخفوق العجين والبيض مع الكرز المفقوش، لم يحاول أحد تذوقه هذه المرة، لكن الأمر لم يمض على خير، قال البعض إنه مقصود وإنها محاولة لتكسير العظام، وأشار آخرون إلى أنها طريقة إدارة الكامب لإدماجهم بالمجتمع الألماني.
استعان أحدهم بصديقته الألمانية، أرسل لها صورة للوجبة، كان ردها مفاجئاً للجميع. أجابته بحزم أن هذا الطعام لا يمت للثقافة الألمانية بصلة. انشغل الشبان بالبحث عن السبب، اتفقوا على أن الطاهي يحاول التجريب بهم وهم لن يقبلوا بذلك حتماً!.
ياسر شاب ذو حماس ظاهر يدفق الدم في عروقه كلما تحدث، يتنقل بين غرف السوريين داعياً إلى اعتصام أمام المطعم عند السادسة، وقت العشاء. يسخر أحدهم: أتريدها مظاهرة طيارة! يسأل آخر: هل سنبدأها بالتكبير! فصاح آخر من بعيد "لا دخل لنا!" فنعتوه بالمتخاذل. انشغل آخرون بالتخطيط جهزوا الكاميرا للتوثيق. نبّه البعض إلى عدم ضرورة ذكر التاريخ أو عبارة "أين ميركل مما يحدث!". يريدونها صامتة.
جاء موعد العشاء ولم يحصل شيء، أخبر محمد عامر أنه كان من المفترض أن يكون هناك اعتصام، قال متفاجئاً، لكن من دعا إليه، فرد محمد "ذاك الذي يأكل بنهمٍ هناك".
إقرأ أيضاً: ترحيل لبنى أبيضار إلى المغرب بعد انتهاء تأشيرتها الفرنسية