30 ديسمبر 2021
مؤامرة سينمائية نسائية على الجيش الإسرائيلي!
بعض الافتراضات لا يقبل العقل السليم طرحها، ولو حتى على سبيل إيصال فكرة ما، ولذلك فأنت بعقلك السليم في جسمك غير السليم، لن تقبل بمجرد افتراض وجود فيلم مصري يقدم صورة ساخرة للمؤسسة العسكرية من الداخل، أو حتى يقدم صورة بعيدة عن المثالية ليوميات الحياة في معسكر جيش، ليرينا كيف تدار بداخله العلاقات بين الضباط والمجندين، لأنك تعلم علم اليقين أن ذلك ضرب من المستحيل الذي سيكون من العبث مناقشته ولو حتى على سبيل الإفتراض.
ربما كان من الافتراضات المقبولة عقلا ونقلا، تخيل أن ثمة فيديو تم تصويره على اليوتيوب يصور جانبا من العلاقة بين ضابط جيش وعدد من المجندين، أو فيديو يتحدث فيه شخص عن تجربته في التجنيد، أو يتساءل عن نوعية التدريب الذي يحصل عليه المجندون لكي يحموا أنفسهم من العمليات الإرهابية، نعم هذا افتراض مقبول وممكن الحدوث، لكن الأسئلة التي ستكون مطروحة بخصوصه: هل تم القبض على من قاموا بعمل هذا الفيديو أم لا؟، و"كم عشر سنين سجن" سيحصل عليها حضوريا أو غيابيا الذين شاركوا في تصوير ذلك الفيديو وانتاجه وربما مشاهدته؟، بتهمة مساندة الإرهاب وزعزعة استقرار البلاد وتهديد الأمن القومي لمصر؟، وكيف يمكن مخاطبة إدارة موقع يوتيوب لرفع ذلك الفيديو واخفاء أثره من الوجود الافتراضي وإخفاء صناعه من الوجود الواقعي، ثم الأهم من ذلك كله: كيف يمكن سد كل الثغرات التي نتج عنها تصوير ذلك الفيديو الأثيم وعرضه، لكي لا يتكرر مثل ذلك في المستقبل؟.
للأسف، لن تستطيع أن تهرب من التفكير في كل هذه الافتراضات، وأنت تشاهد الفيلم الإسرائيلي (الحافز صفر ـ Zero Motivation) الذي يحكي بشكل ساخر وقائع الحياة في معسكر للجيش الإسرائيلي في منطقة حدودية نائية، من وجهة نظر عدد من المجندات الساخطات على أوضاعهن، والتي تعاني كل واحدة منهن من مشكلة تؤرقها، وتزيد من معاناتها في أداء الخدمة العسكرية، التي تنتظر بفارغ الصبر انتهاء أيامها، لكي تعود إلى الحياة المدنية، لكن ذلك لا يتم تقديمه بشكل مبهج، من أجل ترغيب المدنيين في الحياة العسكرية، على طريقة سلسلة أفلام (اسماعيل ياسين في الجيش والأسطول والطيران والبوليس الحربي) التي صنعها المخرج فطين عبد الوهاب بالتعاون مع سلطات ثورة يوليو، تأثراً بعدد من الأفلام الأمريكية الشهيرة التي صُنعت بغرض تقريب الحياة العسكرية إلى المدنيين، وحين حاول المخرج شريف عرفة احياء التجربة بصنع فيلم (عبود في الحدود) عام 1999 من بطولة النجم الراحل علاء ولي الدين، فاجأته الرقابة بإحالة فيلمه إلى الشئون المعنوية للقوات المسلحة لمشاهدته، فاعترض مسئولوها على الفيلم وأمروا بمنعه، ولم يتم عرضه إلا بعد كم مهول من الوساطات أفضى إلى تشكيل لجنة من كبار قادة الجيش لمشاهدته، وظل صانعو الفيلم على أعصابهم طيلة العرض الخاص ليتنفسوا الصعداء حين رأوا الجنرالات الكبار يمنحونهم صك الرضا عقب الفيلم، ليجد الفيلم طريقه إلى النور دون أن يفهم أحد لماذا تم منعه في الأساس.
ربما كان من الافتراضات المقبولة عقلا ونقلا، تخيل أن ثمة فيديو تم تصويره على اليوتيوب يصور جانبا من العلاقة بين ضابط جيش وعدد من المجندين، أو فيديو يتحدث فيه شخص عن تجربته في التجنيد، أو يتساءل عن نوعية التدريب الذي يحصل عليه المجندون لكي يحموا أنفسهم من العمليات الإرهابية، نعم هذا افتراض مقبول وممكن الحدوث، لكن الأسئلة التي ستكون مطروحة بخصوصه: هل تم القبض على من قاموا بعمل هذا الفيديو أم لا؟، و"كم عشر سنين سجن" سيحصل عليها حضوريا أو غيابيا الذين شاركوا في تصوير ذلك الفيديو وانتاجه وربما مشاهدته؟، بتهمة مساندة الإرهاب وزعزعة استقرار البلاد وتهديد الأمن القومي لمصر؟، وكيف يمكن مخاطبة إدارة موقع يوتيوب لرفع ذلك الفيديو واخفاء أثره من الوجود الافتراضي وإخفاء صناعه من الوجود الواقعي، ثم الأهم من ذلك كله: كيف يمكن سد كل الثغرات التي نتج عنها تصوير ذلك الفيديو الأثيم وعرضه، لكي لا يتكرر مثل ذلك في المستقبل؟.
للأسف، لن تستطيع أن تهرب من التفكير في كل هذه الافتراضات، وأنت تشاهد الفيلم الإسرائيلي (الحافز صفر ـ Zero Motivation) الذي يحكي بشكل ساخر وقائع الحياة في معسكر للجيش الإسرائيلي في منطقة حدودية نائية، من وجهة نظر عدد من المجندات الساخطات على أوضاعهن، والتي تعاني كل واحدة منهن من مشكلة تؤرقها، وتزيد من معاناتها في أداء الخدمة العسكرية، التي تنتظر بفارغ الصبر انتهاء أيامها، لكي تعود إلى الحياة المدنية، لكن ذلك لا يتم تقديمه بشكل مبهج، من أجل ترغيب المدنيين في الحياة العسكرية، على طريقة سلسلة أفلام (اسماعيل ياسين في الجيش والأسطول والطيران والبوليس الحربي) التي صنعها المخرج فطين عبد الوهاب بالتعاون مع سلطات ثورة يوليو، تأثراً بعدد من الأفلام الأمريكية الشهيرة التي صُنعت بغرض تقريب الحياة العسكرية إلى المدنيين، وحين حاول المخرج شريف عرفة احياء التجربة بصنع فيلم (عبود في الحدود) عام 1999 من بطولة النجم الراحل علاء ولي الدين، فاجأته الرقابة بإحالة فيلمه إلى الشئون المعنوية للقوات المسلحة لمشاهدته، فاعترض مسئولوها على الفيلم وأمروا بمنعه، ولم يتم عرضه إلا بعد كم مهول من الوساطات أفضى إلى تشكيل لجنة من كبار قادة الجيش لمشاهدته، وظل صانعو الفيلم على أعصابهم طيلة العرض الخاص ليتنفسوا الصعداء حين رأوا الجنرالات الكبار يمنحونهم صك الرضا عقب الفيلم، ليجد الفيلم طريقه إلى النور دون أن يفهم أحد لماذا تم منعه في الأساس.
على عكس تناول فطين عبد الوهاب وشريف عرفة البهيج للحياة العسكرية، يقدم الفيلم الإسرائيلي تناولا ساخرا سوداويا للحياة العسكرية، يفضح فيه حالة الخواء التي تسود الحياة اليومية في الوحدة العسكرية الإسرائيلية، حيث تتحول الحياة العسكرية بكل ما تثيره من رهبة وترقب، إلى مغامرات عاطفية نزقة، وصراعات عبثية بين المجندات على المهام المكتبية وفرم الأوراق واستخدام "الدباسة المسدس" كسلاح للحرب بين مجندتين، وهو ما يذكر بالطريقة الساخرة التي تم بها تقديم عبثية حياة الجنود الأمريكان خلال الحرب الكورية، في الفيلم المهم (M*A*S*H) للمخرج الكبير روبرت ألتمان، والذي اعتمد على رواية للكاتب ريتشارد هوكر، وحصل على جائزة أوسكار أحسن سيناريو للكاتب رينج لاردنر جونيور، وهو الفيلم الذي تم تحويله بعد ذلك إلى مسلسل تلفزيوني ناجح.
لكن تاليا لافي مخرجة فيلم (الحافز صفر) وهي كاتبته أيضاً، لا تعتمد في تقديم رؤيتها للحياة العسكرية على رواية أو كتاب، بل تقدم رؤية شخصية لتجربة التجنيد الإجباري الذي يتم تطبيقه في اسرائيل على الشبان والشابات سواء بسواء، لكنها تسخر من تلك المساواة المعلنة، لتظهر التعامل الذكوري الصارخ مع المجندات اللواتي لا يركز الضباط إلا على النظر إلى مفاتنهن، ولا يتم تكليفهن إلا بمهام تافهة مثل تقديم الشاي والقهوة والمأكولات للضباط خلال اجتماعاتهم، فضلا عن قيامهن بالأعمال المكتبية التافهة، وهي حياة رتيبة تجعل إحدى بطلات الفيلم القادمة من أصول متواضعة في مستوطنة، تحلم طيلة الوقت بنقلها إلى معسكر آخر للجيش في تل أبيب حيث ستعيش حياة المدينة المبهرة عن قرب، ويصور لنا الفيلم أحلام يقظتها التي ترى فيها نفسها وهي تعبر شوارع تل أبيب مرتدية الكعب العالي وأفخر الملابس بدلا من ملابس الجندية الكئيبة.
في مطلع الفيلم نرى سخرية شديدة من الإجراءات الأمنية المتهافتة التي تجعل فتاة تنتحل صفة مجندة، تتجاوز بوابات المعسكر وحراساته، وتدخل إليه باحثة عن ضابط وسيم ارتبط معها بعلاقة عاطفية ووعدها بالزواج، وحين تداهمه داخل غرفته وهو مع عشيقة أخرى له، تكتشف الفتاة أنه كان يلعب بعواطفها، تنتحر في سريرها داخل المعسكر، لتنكشف بعد انتحارها فضيحة أنها لم تكن مجندة أصلا، وأنها تسللت إلى المعسكر واخترقت كل الإجراءات الأمنية، فيتم تكدير وحدة المجندات بأكملها وعلى رأسها الضابطة ممتلئة الحجم، والتي أدت دورها المخرجة بنفسها، فأجادت في تقديم شخصية الضابطة التي تشعر بأنها تؤدي مهمة عظيمة، في حين أنها لا تفعل أي شيئ مهم في حقيقة الأمر، لا هي ولا المجندات اللواتي يخدمن تحت قيادتها.
وفي تطور درامي به كثير من المبالغة التي أثرت على مستوى الفيلم، نرى كيف تعرضت مجندة شقراء من أصول روسية لصدمة عصبية، حين رأت شبح المنتحرة المنتحلة لصفة الجندية يرقد إلى جوارها حين نامت على السرير الذي انتحرت عليه، فتعرضت لاضطراب نفسي وعصبي حاد، جعلها تلازم بشكل مزعج زميلة لها تحلم طيلة الوقت بأي علاقة جنسية لكي تتخلص من وصمة "العذراء" التي تلاحقها وسط زميلاتها، وبالفعل تنجح في "التضبيط" مع مجند قادم لزيارة المعسكر، لكنها تجبن في آخر لحظة، بعد أن بدأ يمارس الجنس معها، وقبل أن يغتصبها المجند الذي "سِخِن" ولم يعد قادرا على التوقف، يفاجأ بالزميلة المصابة بالصدمة العصبية تطلق عليه النار وتجبره على خلع ملابسه والفرار بحياته عاريا في المعسكر، في مشهد حرصت فيه المخرجة على أن تظهر الجندي وهو يقف ذليلا مرتديا النصف العلوي من ملابسه العسكرية فقط.
ولعلك إن استغربت كيف تم تقديم كل هذه الحكايات في فيلم يتناول الحياة داخل معسكر جيش اسرائيلي، تنتظر مني أن أحدثك عن الجزئية التي سيتحول فيها الفيلم، ليعرض لحظة تنوير درامي دفعت كل بطلاته للخروج من حالة الخواء والتفاهة، وإدراك المهمة الوطنية الجليلة التي يقومون بها، ليوجهوا رسالة إلى الشباب والفتيات عن أهمية الإلتحاق بالجيش الإسرائيلي الذي يحمي البلاد، متحدثين عن المخاطر التي تواجه اسرائيل التي يتآمر عليها كل جيرانها، وضرورة أن يظل سلاحهم صاحياً للوقوف ضد حروب الجيل الرابع التي تهدف للفتك بإسرائيل. ولا ألومك إن انتظرت أن أحدثك عن ذلك، فقد ظللت أنتظره حتى نهاية الفيلم، متوقعاً على الأقل أن ينتهي الفيلم بمشهد مؤثر لقتل مجندة أو حتى بمونولوج طويل من ضابط شارك في أحد الحروب ليذكر المشاهدين بأمجاد الجيش الإسرائيلي وأهميته وقدسيته، لعل ذلك يبرر لي سماح السلطات العسكرية الإسرائيلية بتمرير كل تلك السخرية اللاذعة من الجيش.
لكن الفيلم انتهى دون حدوث ذلك، بل على العكس تماماً، اختارت مخرجته أن تنهيه بإظهار حالة البهجة التي تشعر بها احدى بطلات الفيلم عند انتهاء خدمتها وعودتها إلى حياتها المدنية، ولم يكن ممكنا أن أفترض أن الفيلم تم انتاجه خارج اسرائيل من قبل حزب اسرائيلي معارض، فقد كنت قرأت قبل مشاهدة الفيلم، أنه حصل على أغلب جوائز الأوسكار الإسرائيلية لعام 2014، مما يعكس احتفاء الوسط الفني الإسرائيلي به بشكل رسمي، فضلا عن حصوله على جائزة أفضل فيلم روائي في دورة مهرجان تريبيكا السينمائي الأمريكي الذي يقام في نيويورك كل عام، حين تحدثت مع صديق لي كان قد شاهد الفيلم واستغرب مثلي من جرأته، أضحكني أن أجد لديه قناعة راسخة بأن إنتاج فيلم يسخر بكل تلك الجرأة من الجيش الإسرائيلي، هو أصلاً مؤامرة اسرائيلية مقصودة لإقناع العالم بأنه جيش يعاني من الملل، ولا يقوم المجندون فيه بأي أعمال قتل للمدنيين، ويقضون وقتهم في الأعمال المكتبية والصراعات اللطيفة.
بالطبع لم يقتنع صديقي حين ذكرته أن الفيلم يقدم أحداثه باللغة العبرية، مما يعني أنه موجه للداخل الإسرائيلي، وأنه لم يعرض إلا في عدد قليل من دور العرض في الولايات المتحدة وأوروبا حيث حقق أرباحا ضئيلة للغاية، فضلا عن أن تفسيره التآمري ذلك يغفل وجود أعمال فنية أخرى، قامت بتقديم الحياة العسكرية والأمنية داخل اسرائيل برؤى نقدية متباينة تختلف في درجة نقدها وطبيعته، أتحدث عن أفلام مثل (روك القصبة) و(خمس كاميرات مكسورة) و(لبنان) و(فالس مع بشير) و(بيت لحم) و(الشرطي) و(شجرة الليمون) على سبيل المثال لا الحصر، والتي لا يمكن تصنيفها كلها كأفلام تقدم رؤية مناقضة تماماً لتمجيد المجتمع الإسرائيلي للجيش الذي تتمحور حوله الدولة، كما أنه لا يمكن اغفال تعاملها في الأساس مع الوجود الفلسطيني بمنطق العطف الإنساني، وليس منطق الاعتراف الشجاع بجرائم الاحتلال الصهيوني، والدعوة لإنهائه مثلاً بتبني خيار الدولة الواحدة التي تكفل حقوقا متساوية لكل مواطنيها، لكن أي تقييم عاقل لتلك الأفلام يدرك أنها قدمت مساحة من النقد للأداء العسكري الإسرائيلي، لا يمكن تصور تقديمه في "سينمانا" التي لا تتحدث حتى حين تتناول تاريخ الجيوش "الوطنية" إلا عن بطولات مطلقة لا تشوبها الأخطاء ولا النواقص ولا حتى العثرات.
قطعاً، سيبدو التفسير التآمري لصديقي مريحا لكثيرين يستعينون بصداقة نظرية المؤامرة دائما، وهي في حالة هذا الفيلم ستعفيهم من مواجهة الأسئلة التي يطرحها إنتاج فيلم مثله في دولة عسكرية مثل اسرائيل، يمثل الجيش بالفعل أساس وجودها و"عمود خيمتها الأول والأخير"، ومع ذلك فهي تسمح بكل هذا القدر من السخرية منه، بينما في بلادنا العربية التي يتم إنفاق المليارات فيها على التسليح، بزعم تكوين جيوش قوية قادرة على محاربة اسرائيل، يمكن أن يقضي صحفي في السجن أكثر من ربع قرن إذا حاول نقل الحقيقة للناس عن أوضاع جيشهم، أو طرح تساؤلات مشروعة عن تدريب القوات المسلحة وجاهزيتها وتسليحها، وقد رأينا على سبيل المثال لا الحصر، كيف واجه المشير عبد الفتاح السيسي الإنتقادات الشعبية التي بدأت تعلو على استحياء حول درجة كفاءة وتدريب القوات المسلحة بعد وقوع عدة عمليات إرهابية موجعة، فبدلا من أن يناقش تلك الانتقادات على الملأ، ليطمئن الناس بوجود عقلية تعترف بالأخطاء وتحاسب عليها وتسعى لتجاوزها، رأيناه يدعو للعودة إلى أيام التعتيم الإعلامي الكامل التي كان يتم تطبيقها في الستينات، بزعم الحرص على معنويات القوات المسلحة والشعب المصري، وإذا كانت هذه هي الطريقة التي يتم بها التعامل مع القوات المسلحة عقب حدوث إخفاق يؤدي لفقدان أرواح العشرات من أبنائها بصورة متكررة ومؤسفة، فلك أن تتخيل كيف سيكون رد الفعل على أي محاولة للانتقاد الجاد، فضلاً عن السخرية من طريقة إدارة المؤسسة العسكرية، ومن منطقها.
تذكرت خلال مشاهدة فيلم (الحافز صفر) سلسلة مقالات جميلة نشرها الكاتب أحمد سمير بعنوان (ما بعد الهايكستب)، حول يومياته كمجند والنماذج الإنسانية التي شاهدها خلال تجربة التجنيد، فشرِقت من الضحك المجروح حين تخيلت طبيعة المناقشات التي ستدور بيني وبين مسئولي جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، لو كنت قد قمت بتحويل تلك المقالات إلى سيناريو لفيلم أو مسلسل، وكيف كان سينتهي الأمر بتحويلي للنيابة العسكرية أنا وأحمد سمير وكل من يتشدد لنا، لمجرد تفكيرنا في تقديم صورة إنسانية للجيش، لا تكون خارجة من مطبخ الشئون المعنوية للقوات المسلحة، وكيف سيكون ذلك مصير كل من يحاول مناقشة أوضاع القوات المسلحة ولو حتى بشكل جاد ورصين، يهدف لضمان حق المواطن في المعرفة، ويدعو إلى النقد الذاتي والمراجعة وإصلاح الأخطاء، ليطمئن المواطن على أمنه القومي الذي يعتقد الملايين أنه سيتحقق بالتعتيم والحجب والقمع.
على أية حال، من قصور الرأي ألا نربط فيلم (الحافز صفر) بالصراعات السياسية والإجتماعية، التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة في قضايا عديدة، على رأسها قضية التجنيد الإجباري التي تعد من القضايا الساخنة المثيرة للتوتر في اسرائيل، لا أدري إذا كنت قد تابعت الوثيقة العسكرية التي نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية نهاية عام 2014، والتي تتضمن توصية من مستشارين عسكريين بضرورة إلغاء نظام التجنيد الإجباري في اسرائيل، لتثير تلك الوثيقة جدلا واسعا ومعارضة علنية من عدد من الجهات العسكرية والأمنية، وهو ما لا يمكن فصله عن السياق الإجتماعي الذي تم إنتاج فيه فيلم مثل هذا، والذي يمكن من خلالهم فهم ذلك الكم من التناقضات الإجتماعية، التي انعكست على شخصيات الفتيات المجندات، ويُحسب لصانعة الفيلم أنها حرصت على "تضفير" ذلك ضمن سياق الأحداث البسيطة، لكي توصل رسالتها بوجود الخواء المحيط بالوحدة العسكرية، وإن كان ذلك الخواء يعطي في قراءة أخرى إحساسا بعبثية أن يتم إنفاق كل هذه الأموال على وحدة عسكرية لا تحارب أحدا، ليظل العدو حاضرا ومخيما على الأجواء، حتى وإن لم يكن يمثل خطرا فعليا، وهو ما تسخر منه مخرجة الفيلم التي كان عمرها 35 سنة حين قامت بصنع الفيلم، والتي تعبر عن جيل الشباب الإسرائيلي الذي يقوم كثير من المنتمين إليه بالتمرد على التجنيد الإجباري، وهو ما أصبح يدفع السلطات الإسرائيلية للجوء إلى اليهود المقيمين خارج اسرائيل، لاستنهاض المشاعر الدينية فيهم، من أجل "الإلتحاق بالجيش الحامي للدولة اليهودية".
ختاماً، سيكون من السذاجة أن نفترض أن دولة الكيان الصهيوني لن تستفيد من انتاج فيلم مثل (الحافز صفر)، وأن ننكر أنه لن يساعدها على تجميل صورة قواتها المسلحة وإضفاء طابع إنساني عليها، يتناقض مع الصورة التي بدأت بعض وسائل الإعلام العالمية تقدمها، عقب جرائم الجيش الإسرائيلي المتتالية في غزة والضفة الغربية، وأن ذلك ربما جعلها تسمح بإنتاج وعرض هذا الفيلم الذي سيقوم تكريس الصورة التي تروج بها لنفسها في الغرب، بوصفها الدولة الديمقراطية الوحيدة وسط غابة من الدول الإستبدادية التي تتحكم فيها زعامات فردية جاهلة ومغيبة، لكن ذلك كله يطرح السؤال الأهم: وما الذي يمنع قادتنا من أن يقتدوا بإسرائيل في ذلك، فيدركوا أهمية حرية التعبير لأوطانهم، وأن السخرية لا تعيق الجيوش عن النصر، وأن ما يجعل الجيوش تنتصر أو تنهزم هو وجود قيادة كفئة وقوية لها، وأن ما يجعل الدول تتقدم هو ضمانها لحرية التعبير والفكر والبحث العلمي وسيرها على طريق تداول السلطة ومحاسبة قادتها إن قصروا والتوقف عن ربط مصير الوطن بأشخاص أيا كانوا؟، وبالطبع لسنا أغبياء لكي ننتظر الإجابة على سؤال كذلك، فنحن نعرف أن أغلب أبناء شعوبنا وعلى رأسهم كثير من الكتاب والمخرجين والفنانين، قرروا أن يعودوا باختيارهم إلى المربع صفر، حيث تصبح الوطنية في أبهى صورها، أن تتلقى ككاتب وفنان التعليمات من اللواء الفلاني والعميد العلاني، فتقوم بتبرير الخطايا وتجميل الأخطاء، وتخرس الأصوات الساخرة والناقدة، ولا يعلو صوت فوق صوت "تمام يا افندم؟".
ـ فصل من كتابي (من صندوق الدنيا) يصدر قريبا بإذن الله ـ
لكن تاليا لافي مخرجة فيلم (الحافز صفر) وهي كاتبته أيضاً، لا تعتمد في تقديم رؤيتها للحياة العسكرية على رواية أو كتاب، بل تقدم رؤية شخصية لتجربة التجنيد الإجباري الذي يتم تطبيقه في اسرائيل على الشبان والشابات سواء بسواء، لكنها تسخر من تلك المساواة المعلنة، لتظهر التعامل الذكوري الصارخ مع المجندات اللواتي لا يركز الضباط إلا على النظر إلى مفاتنهن، ولا يتم تكليفهن إلا بمهام تافهة مثل تقديم الشاي والقهوة والمأكولات للضباط خلال اجتماعاتهم، فضلا عن قيامهن بالأعمال المكتبية التافهة، وهي حياة رتيبة تجعل إحدى بطلات الفيلم القادمة من أصول متواضعة في مستوطنة، تحلم طيلة الوقت بنقلها إلى معسكر آخر للجيش في تل أبيب حيث ستعيش حياة المدينة المبهرة عن قرب، ويصور لنا الفيلم أحلام يقظتها التي ترى فيها نفسها وهي تعبر شوارع تل أبيب مرتدية الكعب العالي وأفخر الملابس بدلا من ملابس الجندية الكئيبة.
في مطلع الفيلم نرى سخرية شديدة من الإجراءات الأمنية المتهافتة التي تجعل فتاة تنتحل صفة مجندة، تتجاوز بوابات المعسكر وحراساته، وتدخل إليه باحثة عن ضابط وسيم ارتبط معها بعلاقة عاطفية ووعدها بالزواج، وحين تداهمه داخل غرفته وهو مع عشيقة أخرى له، تكتشف الفتاة أنه كان يلعب بعواطفها، تنتحر في سريرها داخل المعسكر، لتنكشف بعد انتحارها فضيحة أنها لم تكن مجندة أصلا، وأنها تسللت إلى المعسكر واخترقت كل الإجراءات الأمنية، فيتم تكدير وحدة المجندات بأكملها وعلى رأسها الضابطة ممتلئة الحجم، والتي أدت دورها المخرجة بنفسها، فأجادت في تقديم شخصية الضابطة التي تشعر بأنها تؤدي مهمة عظيمة، في حين أنها لا تفعل أي شيئ مهم في حقيقة الأمر، لا هي ولا المجندات اللواتي يخدمن تحت قيادتها.
وفي تطور درامي به كثير من المبالغة التي أثرت على مستوى الفيلم، نرى كيف تعرضت مجندة شقراء من أصول روسية لصدمة عصبية، حين رأت شبح المنتحرة المنتحلة لصفة الجندية يرقد إلى جوارها حين نامت على السرير الذي انتحرت عليه، فتعرضت لاضطراب نفسي وعصبي حاد، جعلها تلازم بشكل مزعج زميلة لها تحلم طيلة الوقت بأي علاقة جنسية لكي تتخلص من وصمة "العذراء" التي تلاحقها وسط زميلاتها، وبالفعل تنجح في "التضبيط" مع مجند قادم لزيارة المعسكر، لكنها تجبن في آخر لحظة، بعد أن بدأ يمارس الجنس معها، وقبل أن يغتصبها المجند الذي "سِخِن" ولم يعد قادرا على التوقف، يفاجأ بالزميلة المصابة بالصدمة العصبية تطلق عليه النار وتجبره على خلع ملابسه والفرار بحياته عاريا في المعسكر، في مشهد حرصت فيه المخرجة على أن تظهر الجندي وهو يقف ذليلا مرتديا النصف العلوي من ملابسه العسكرية فقط.
ولعلك إن استغربت كيف تم تقديم كل هذه الحكايات في فيلم يتناول الحياة داخل معسكر جيش اسرائيلي، تنتظر مني أن أحدثك عن الجزئية التي سيتحول فيها الفيلم، ليعرض لحظة تنوير درامي دفعت كل بطلاته للخروج من حالة الخواء والتفاهة، وإدراك المهمة الوطنية الجليلة التي يقومون بها، ليوجهوا رسالة إلى الشباب والفتيات عن أهمية الإلتحاق بالجيش الإسرائيلي الذي يحمي البلاد، متحدثين عن المخاطر التي تواجه اسرائيل التي يتآمر عليها كل جيرانها، وضرورة أن يظل سلاحهم صاحياً للوقوف ضد حروب الجيل الرابع التي تهدف للفتك بإسرائيل. ولا ألومك إن انتظرت أن أحدثك عن ذلك، فقد ظللت أنتظره حتى نهاية الفيلم، متوقعاً على الأقل أن ينتهي الفيلم بمشهد مؤثر لقتل مجندة أو حتى بمونولوج طويل من ضابط شارك في أحد الحروب ليذكر المشاهدين بأمجاد الجيش الإسرائيلي وأهميته وقدسيته، لعل ذلك يبرر لي سماح السلطات العسكرية الإسرائيلية بتمرير كل تلك السخرية اللاذعة من الجيش.
لكن الفيلم انتهى دون حدوث ذلك، بل على العكس تماماً، اختارت مخرجته أن تنهيه بإظهار حالة البهجة التي تشعر بها احدى بطلات الفيلم عند انتهاء خدمتها وعودتها إلى حياتها المدنية، ولم يكن ممكنا أن أفترض أن الفيلم تم انتاجه خارج اسرائيل من قبل حزب اسرائيلي معارض، فقد كنت قرأت قبل مشاهدة الفيلم، أنه حصل على أغلب جوائز الأوسكار الإسرائيلية لعام 2014، مما يعكس احتفاء الوسط الفني الإسرائيلي به بشكل رسمي، فضلا عن حصوله على جائزة أفضل فيلم روائي في دورة مهرجان تريبيكا السينمائي الأمريكي الذي يقام في نيويورك كل عام، حين تحدثت مع صديق لي كان قد شاهد الفيلم واستغرب مثلي من جرأته، أضحكني أن أجد لديه قناعة راسخة بأن إنتاج فيلم يسخر بكل تلك الجرأة من الجيش الإسرائيلي، هو أصلاً مؤامرة اسرائيلية مقصودة لإقناع العالم بأنه جيش يعاني من الملل، ولا يقوم المجندون فيه بأي أعمال قتل للمدنيين، ويقضون وقتهم في الأعمال المكتبية والصراعات اللطيفة.
بالطبع لم يقتنع صديقي حين ذكرته أن الفيلم يقدم أحداثه باللغة العبرية، مما يعني أنه موجه للداخل الإسرائيلي، وأنه لم يعرض إلا في عدد قليل من دور العرض في الولايات المتحدة وأوروبا حيث حقق أرباحا ضئيلة للغاية، فضلا عن أن تفسيره التآمري ذلك يغفل وجود أعمال فنية أخرى، قامت بتقديم الحياة العسكرية والأمنية داخل اسرائيل برؤى نقدية متباينة تختلف في درجة نقدها وطبيعته، أتحدث عن أفلام مثل (روك القصبة) و(خمس كاميرات مكسورة) و(لبنان) و(فالس مع بشير) و(بيت لحم) و(الشرطي) و(شجرة الليمون) على سبيل المثال لا الحصر، والتي لا يمكن تصنيفها كلها كأفلام تقدم رؤية مناقضة تماماً لتمجيد المجتمع الإسرائيلي للجيش الذي تتمحور حوله الدولة، كما أنه لا يمكن اغفال تعاملها في الأساس مع الوجود الفلسطيني بمنطق العطف الإنساني، وليس منطق الاعتراف الشجاع بجرائم الاحتلال الصهيوني، والدعوة لإنهائه مثلاً بتبني خيار الدولة الواحدة التي تكفل حقوقا متساوية لكل مواطنيها، لكن أي تقييم عاقل لتلك الأفلام يدرك أنها قدمت مساحة من النقد للأداء العسكري الإسرائيلي، لا يمكن تصور تقديمه في "سينمانا" التي لا تتحدث حتى حين تتناول تاريخ الجيوش "الوطنية" إلا عن بطولات مطلقة لا تشوبها الأخطاء ولا النواقص ولا حتى العثرات.
قطعاً، سيبدو التفسير التآمري لصديقي مريحا لكثيرين يستعينون بصداقة نظرية المؤامرة دائما، وهي في حالة هذا الفيلم ستعفيهم من مواجهة الأسئلة التي يطرحها إنتاج فيلم مثله في دولة عسكرية مثل اسرائيل، يمثل الجيش بالفعل أساس وجودها و"عمود خيمتها الأول والأخير"، ومع ذلك فهي تسمح بكل هذا القدر من السخرية منه، بينما في بلادنا العربية التي يتم إنفاق المليارات فيها على التسليح، بزعم تكوين جيوش قوية قادرة على محاربة اسرائيل، يمكن أن يقضي صحفي في السجن أكثر من ربع قرن إذا حاول نقل الحقيقة للناس عن أوضاع جيشهم، أو طرح تساؤلات مشروعة عن تدريب القوات المسلحة وجاهزيتها وتسليحها، وقد رأينا على سبيل المثال لا الحصر، كيف واجه المشير عبد الفتاح السيسي الإنتقادات الشعبية التي بدأت تعلو على استحياء حول درجة كفاءة وتدريب القوات المسلحة بعد وقوع عدة عمليات إرهابية موجعة، فبدلا من أن يناقش تلك الانتقادات على الملأ، ليطمئن الناس بوجود عقلية تعترف بالأخطاء وتحاسب عليها وتسعى لتجاوزها، رأيناه يدعو للعودة إلى أيام التعتيم الإعلامي الكامل التي كان يتم تطبيقها في الستينات، بزعم الحرص على معنويات القوات المسلحة والشعب المصري، وإذا كانت هذه هي الطريقة التي يتم بها التعامل مع القوات المسلحة عقب حدوث إخفاق يؤدي لفقدان أرواح العشرات من أبنائها بصورة متكررة ومؤسفة، فلك أن تتخيل كيف سيكون رد الفعل على أي محاولة للانتقاد الجاد، فضلاً عن السخرية من طريقة إدارة المؤسسة العسكرية، ومن منطقها.
تذكرت خلال مشاهدة فيلم (الحافز صفر) سلسلة مقالات جميلة نشرها الكاتب أحمد سمير بعنوان (ما بعد الهايكستب)، حول يومياته كمجند والنماذج الإنسانية التي شاهدها خلال تجربة التجنيد، فشرِقت من الضحك المجروح حين تخيلت طبيعة المناقشات التي ستدور بيني وبين مسئولي جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، لو كنت قد قمت بتحويل تلك المقالات إلى سيناريو لفيلم أو مسلسل، وكيف كان سينتهي الأمر بتحويلي للنيابة العسكرية أنا وأحمد سمير وكل من يتشدد لنا، لمجرد تفكيرنا في تقديم صورة إنسانية للجيش، لا تكون خارجة من مطبخ الشئون المعنوية للقوات المسلحة، وكيف سيكون ذلك مصير كل من يحاول مناقشة أوضاع القوات المسلحة ولو حتى بشكل جاد ورصين، يهدف لضمان حق المواطن في المعرفة، ويدعو إلى النقد الذاتي والمراجعة وإصلاح الأخطاء، ليطمئن المواطن على أمنه القومي الذي يعتقد الملايين أنه سيتحقق بالتعتيم والحجب والقمع.
على أية حال، من قصور الرأي ألا نربط فيلم (الحافز صفر) بالصراعات السياسية والإجتماعية، التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة في قضايا عديدة، على رأسها قضية التجنيد الإجباري التي تعد من القضايا الساخنة المثيرة للتوتر في اسرائيل، لا أدري إذا كنت قد تابعت الوثيقة العسكرية التي نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية نهاية عام 2014، والتي تتضمن توصية من مستشارين عسكريين بضرورة إلغاء نظام التجنيد الإجباري في اسرائيل، لتثير تلك الوثيقة جدلا واسعا ومعارضة علنية من عدد من الجهات العسكرية والأمنية، وهو ما لا يمكن فصله عن السياق الإجتماعي الذي تم إنتاج فيه فيلم مثل هذا، والذي يمكن من خلالهم فهم ذلك الكم من التناقضات الإجتماعية، التي انعكست على شخصيات الفتيات المجندات، ويُحسب لصانعة الفيلم أنها حرصت على "تضفير" ذلك ضمن سياق الأحداث البسيطة، لكي توصل رسالتها بوجود الخواء المحيط بالوحدة العسكرية، وإن كان ذلك الخواء يعطي في قراءة أخرى إحساسا بعبثية أن يتم إنفاق كل هذه الأموال على وحدة عسكرية لا تحارب أحدا، ليظل العدو حاضرا ومخيما على الأجواء، حتى وإن لم يكن يمثل خطرا فعليا، وهو ما تسخر منه مخرجة الفيلم التي كان عمرها 35 سنة حين قامت بصنع الفيلم، والتي تعبر عن جيل الشباب الإسرائيلي الذي يقوم كثير من المنتمين إليه بالتمرد على التجنيد الإجباري، وهو ما أصبح يدفع السلطات الإسرائيلية للجوء إلى اليهود المقيمين خارج اسرائيل، لاستنهاض المشاعر الدينية فيهم، من أجل "الإلتحاق بالجيش الحامي للدولة اليهودية".
ختاماً، سيكون من السذاجة أن نفترض أن دولة الكيان الصهيوني لن تستفيد من انتاج فيلم مثل (الحافز صفر)، وأن ننكر أنه لن يساعدها على تجميل صورة قواتها المسلحة وإضفاء طابع إنساني عليها، يتناقض مع الصورة التي بدأت بعض وسائل الإعلام العالمية تقدمها، عقب جرائم الجيش الإسرائيلي المتتالية في غزة والضفة الغربية، وأن ذلك ربما جعلها تسمح بإنتاج وعرض هذا الفيلم الذي سيقوم تكريس الصورة التي تروج بها لنفسها في الغرب، بوصفها الدولة الديمقراطية الوحيدة وسط غابة من الدول الإستبدادية التي تتحكم فيها زعامات فردية جاهلة ومغيبة، لكن ذلك كله يطرح السؤال الأهم: وما الذي يمنع قادتنا من أن يقتدوا بإسرائيل في ذلك، فيدركوا أهمية حرية التعبير لأوطانهم، وأن السخرية لا تعيق الجيوش عن النصر، وأن ما يجعل الجيوش تنتصر أو تنهزم هو وجود قيادة كفئة وقوية لها، وأن ما يجعل الدول تتقدم هو ضمانها لحرية التعبير والفكر والبحث العلمي وسيرها على طريق تداول السلطة ومحاسبة قادتها إن قصروا والتوقف عن ربط مصير الوطن بأشخاص أيا كانوا؟، وبالطبع لسنا أغبياء لكي ننتظر الإجابة على سؤال كذلك، فنحن نعرف أن أغلب أبناء شعوبنا وعلى رأسهم كثير من الكتاب والمخرجين والفنانين، قرروا أن يعودوا باختيارهم إلى المربع صفر، حيث تصبح الوطنية في أبهى صورها، أن تتلقى ككاتب وفنان التعليمات من اللواء الفلاني والعميد العلاني، فتقوم بتبرير الخطايا وتجميل الأخطاء، وتخرس الأصوات الساخرة والناقدة، ولا يعلو صوت فوق صوت "تمام يا افندم؟".
ـ فصل من كتابي (من صندوق الدنيا) يصدر قريبا بإذن الله ـ