مؤتمر موسكو انقلاب سافر على جنيف1
قبل موسكو، حليفة النظام الحاكم في دمشق، عملت طهران، الحليفة الأخرى له، على تنظيم ما سمته حواراً سورياً بين أطراف حكومية و"معارضة"، وكانت لقاءات هزيلة في الشكل والمضمون، أثارت حتى سخرية بعض المشاركين الحكوميين.
الآن، تستعد موسكو لتنظيم احتفال مماثل، تطلق عليه اسم حوار سوري سوري. بغرض البرهنة على أنها مثل طهران هي من تخوض الحرب ضد الشعب السوري، بأسلحتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والدعائية، وهي، أيضاً، من تصنع السلم على هواها، وبما يلبي مصالحها ومطامحها، ولو أدى ذلك إلى قتل المزيد من حقوق السوريين، الأساسية والطبيعية، في تقرير مصيرهم ومستقبل بلادهم، أسوة بسائر شعوب الأرض.
وابتداءً، فإن اجتماع موسكو يلتئم من أجل إسدال الستار على جنيف وجنيف 2، والانطلاق من نقطة الصفر، لرسم مستقبل سورية والسوريين، وفق سيناريو معد مسبقاً، وليس حسب ما يرتئيه السوريون. ويبدأ إسدال الستار على جنيف بإقصاء الأمم المتحدة والأطراف الإقليمية والدولية عن مساعي مساعدة السوريين لإنقاذ شعبهم ووطنهم، وانفراد طرف واحد، هو الطرف الروسي، ليس فقط بالتنظيم والرعاية، بل كذلك بوضع حلول تجري تسميتها نقطة انطلاق، فيما يتم إقصاء مضمون مؤتمر جنيف، والقفز عنه وكأنه لم يكن، وكأن إرادة السوريين والأطراف الإقليمية والدولية، بما فيها الأمم المتحدة لم تتفق عليه. ويستغل المنظمون الروس خطة المبعوت الأممي، ستيفان دي ميستورا، بشأن تجميد القتال في حلب، للقول إن اجتماع موسكو المزمع يقيم صلة وصل مع الإرادة الدولية وقراراتها، علماً أن مهمة المبعوث الدولي لم تكن تجاوز مؤتمر جنيف، القاضي بتشكيل هيئة حكومية انتقالية كاملة الصلاحيات. وبنظرة سريعة على منحى الاستعداد لعقد اجتماع موسكو، يتبين ما يلي.
أولاً: تتم دعوة المدعوين من المعارضة، وعددهم حتى تاريخه ثلاثون، بصفاتهم الفردية، بقصد الإيحاء أنه لا توجد أي تنظيمات أو كيانات سياسية أو حزبية سورية ذات شأن أو اعتبار. وتكون المعارضة، في هذه الحالة، مجرد بضع عشرات من الأشخاص فقط لا غير.
ثانياً: تتم دعوة ثلاث شخصيات من الائتلاف، بصفاتهم الشخصية، من جملة ثلاثين مدعواً، بقصد إسدال الستار على الائتلاف، وسحب البساط من تحت أقدامه بصفته ممثلاً للثورة والمعارضة، وعلى الرغم من الاعتراف الواسع بتمثيله، وذلك بموافقة ضمنية من الشخصيات الثلاثة المدعوة.
ثالثاً: الطيف الواسع والمتنوع والمتضارب من ممثلي المعارضة يقود إلى حرمان المعارضة من صوت جماعي موحد، وإلى نشوب خلافات علنية وشبه علنية ما بينها. بما ينقل إلى العالم صورة مفادها أنه ليس هناك معارضة حقيقية، أو جسم واحد لها، فلا يبقى أمام الجهة الراعية سوى أن تصوغ صيغة الحد الأدنى لما هو متفق عليه بين شخصيات المعارضة، وأن تحمل المدعوين على الاتفاق على الصيغة من أجل إثبات الجدية والترفع عن شخصنة الأمور!.
رابعاً: الصيغة المزمعة جرى إعدادها مسبقاً في موسكو، وتم تسريبها إلى وسائل الإعلام، وتدور حول مرحلة انتقالية وليس حول حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات. والمرحلة الانتقالية، حسب موسكو وباتفاق مرجح مسبق مع النظام في دمشق، تستمر بين سنتين وسنتين ونصف السنة، وتتضمن إجراء انتخابات نيابية وتشكيل هيئة تأسيسية، ودعم الجيش السوري لمحاربة الإرهاب، على أن تنتهي المرحلة بانتخابات رئاسية "من دون فيتو على أي شخص".
خامساً: لا توفر الصيغة الروسية أي انتقال للسلطة، أو وقف إطلاق النار أو تأمين عودة عشرة ملايين نازح، أو الافراج عن مئات آلاف المعتقلين.
سادساً: في اليوم الذي نشرت فيه وسائل الإعلام الملامح الرئيسية للصيغة الروسية، فقد تم، الأربعاء 31 ديسمبر/كانون الأول 2014، نشر إعلان (تصريح) للخارجية الروسية، يفيد بأن توسيع نطاق العقوبات الأميركية على موسكو الذي تقرر، الأسبوع الجاري، يمكن أن يعرقل التعاون الثنائي في قضايا، مثل الأزمة السورية والبرنامج النووي الإيراني. وفي واقع الأمر، إن عقد مؤتمر موسكو، بالطريقة التي تتم بها الاستعدادات لعقده، بحد ذاته عرقلة للتعاون الثنائي مع واشنطن، ومع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة السورية.
سابعاً: تم الربط بين الملف النووي الإيراني والعقوبات على روسيا والوضع في سورية في حزمة واحدة. وهكذا، فعلى الأطراف الدولية الخمسة أن تتفاوض مع موسكو إضافة إلى طهران، بشأن الملف النووي للأخيرة. وكذلك على أصدقاء سورية في كل مكان في العالم أن يتفاوضوا مع موسكو بشأن مستقبل سورية والسوريين. التذكير بحق الشعوب، ومنها الشعب السوري، بتقرير مصيرها، أو الالتزام بالمعايير الدولية، بما يخص الملفات النووية، أو الاحتكام للقرارات الدولية وأحكام القانون الدولي، هي مجرد ثرثرة وكلام بلا طائل بالنسبة للخارجية الروسية، فالمصالح الروسية فوق كل اعتبار.
ثامناً: بادرت الخارجية الروسية إلى دعوة طهران لاجتماع موسكو، علماً أن أمين عام الأمم المتحدة كان قد سحب دعوته إلى طهران لحضور اجتماع جنيف 2، بسبب رفض القيادة الإيرانية الالتزام بمرجعية المؤتمر المتمثلة بجنيف 1 (الحكومة الانتقالية كاملة الصلاحيات). وما زالت طهران على رفضها هذه المرجعية. مع ذلك، لا تتردد الخارجية الروسية بدعوتها إلى المؤتمر، ما يكشف، من دون أي لبس، الهدف الحقيقي لمؤتمر موسكو، وهو الالتفاف على هذه المرجعية والقفز عنها، خدمة للنظام القائم في دمشق ولدواعي استمراره، وليس من أجل تنظيم حوار سوري سوري، كما يزعمون.
تاسعاً: ثمة نقطة أخيرة، جرى تلويح موسكو بها، فمع استشعار الدبلوماسية الروسية أن مؤتمرها قد بات، وقبل أن يعقد، مكشوف الأهداف، وهي أهداف لا تمت بأدنى صلة لمصالح الشعب السوري، وحقوقه بالحرية والكرامة، فقد خرجت تصريحات من موسكو تفيد بأن انعقاد مؤتمر موسكو قد يسهل استئناف مؤتمر جنيف، وعقد جنيف 3. وللمرء أن يصدّق ذلك، ويأخذه على محمل الجد. فمؤتمر موسكو يهدف إلى تغيير مرجعية جنيف، واستبدال هدف حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات بما يسمى إنشاء هيئة تأسيسية، هي، في الأغلب، هيئة استشارية شبه تشريعية، لا سلطة لها على الأرض، وتتعرض لكل أنواع الضغوط المباشرة وغير المباشرة التي يتعرض لها عموم الشعب من نظامه.
هكذا، اذن، وبعد تغيير المرجعية (أو السقف)، ومع نزع الصفة التمثيلية عن الائتلاف، ممثلاً شرعياً للشعب السوري، فإن الطريق تصبح ممهدة إلى جنيف 3، لا صلة له بجنيف 1 و2. بذلك، يضمن سيرغي لافروف، ناظر الخارجية الروسية، حرمان الشعب السوري من أية نقطة ضوء في نهاية النفق الطويل المظلم.