مع الحدث الثقافي السياسي بتحويل متحف "آيا صوفيا" إلى جامع مرّةً أُخرى، انقسمت الآراء حول الحدث حسب الأجندات، ولكن كان من الملاحظ أن بعض الآراء ذهبت بعيداً في ما تنتظره بعد ذلك كاسترداد الأبجدية العثمانية وحتى استعادة الخلافة التي يمكن أن يكون مقرّها "جامع آيا صوفيا" بالذات.
ومن المهمّ هنا أخذ تجربة شعوب البلقان في الاعتبار، نظراً إلى أنّ العاصمة الأولى للإمبراطورية العثمانية كانت في البلقان (أدرنة)، كذلك فإنَّ تحويل الكنائس إلى جوامع، ثم إعادتها إلى ما كانت عليه تركت ارتداداتها إلى ما بعد نهاية الحكم العثماني في البلقان (1912)، وكذلك الأمر مع الأبجدية التي استخدمها المسلمون في البلقان، حيث شاعت هناك أيضاً الأبجدية العربية في كتابة لغات الألبان والبشناق والبلغار.
وتتصادف حالياً الذكرى المئوية لاستقرار ألبانيا في حدودها الحالية التي تزامنت مع سلسلة من القرارات، مثل اختيار عاصمة جديدة لها (تيرانا)، واعتماد الحروف اللاتينية بشكل رسمي للغة الألبانية، والسماح للمرأة بالمشاركة في الانتخابات.
شغل موضوع الأبجدية الألبان في نهاية الحكم العثماني
صحيح أنَّ بعض الوجهاء والأعيان الألبانيّين اجتمعوا بدعم قوي من النمسا في مدينة فلورا بأقصى جنوب ألبانيا، وأعلنوا من هناك "استقلال ألبانيا" عن الدولة العثمانية في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1912، إلّا أن ألبانيا كانت حتى ذلك الحين مفهوماً جغرافياً؛ لأنّ معظم المناطق التي يقطنها الألبان كانت قد أصبحت تحت الحكم العسكري لصربيا والجبل الأسود واليونان بعد أن انتصرت في حرب البلقان على الدولة العثمانية. لكن "فيينا" التي دعمت إعلان الاستقلال كانت مستعدّة لدخول حرب أوروبية إذا لم يُقبَل بألبانيا ككيان سياسي جديد لكي تمنع صربيا من الوصول إلى البحر الأدرياتيكي.
وهكذا بعد التهديدات المتبادلة، اجتمعت القوى الأوروبية الكبرى (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وروسيا) في مؤتمر لندن في خريف 1912 وصيف 1913 وقرّرت في 29 تمّوز/ يوليو 1913 الموافقة على تشكيل إمارة ألبانية مستقلّة عن الدولة العثمانية، على أن توضَع تحت انتداب القوى الأوروبية، وأن تُرسَم حدودها فيما بعد.
في هذا السياق، اختارت القوى الأوروبية الكبرى نبيلاً ألمانياً (فلهلم فون فيد) لكي يكون أميراً على ألبانيا، التي وصلها في آذار/ مارس 1914 واتّخذ من مدينة دورس الساحلية عاصمة له، ولكنه مع اندلاع الحرب العالمية الأولى والفوضى، آثر أن يغادر ألبانيا عائداً إلى بلاده. في غضون ذلك، كانت اللجنة الممثّلة للانتداب الأووربي (لجنة الرقابة) قد وضعت في نيسان/إبريل 1914 أول قانون أساسي (دستور) لألبانيا نصّ على أن ألبانيا دولة علمانية، ولكن مجريات الحرب سرعان ما غيّبت ألبانيا حتى 1920. فقد اتفقت دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وايطاليا) في نيسان/ إبريل 1915 على معاهدة سرّية لتقاسم الأراضي الألبانية بين إيطاليا وصربيا والجبل الأسود، ولكن النمسا اخترقت صربيا في 1915 وسيطرت على شمال ألبانيا حيث منحت الألبان حكماً ذاتياً، في حين أنّ القوات اليونانية والفرنسية سيطرت على الجنوب، ثم جاءت القوات الإيطالية مع نهاية الحرب.
ومن هنا بقي مصير ألبانيا معلَّقاً في الهواء خلال 1918 و1919 إلى أن قامت في ألبانيا انتفاضة شعبية في نهاية كانون الثاني/ يناير 1920 وانتهت إلى إقرار نظام جديد للحكم حافظ على حدود ألبانيا الحالية، وهو ما تكرّس مع انضمام ألبانيا إلى "عصبة الأمم" في العام ذاته. كانت الحكومة الوطنية التي تشكّلت آنذاك برئاسة سليمان دلفينا قد ضمّت أحمد زوغو وزيراً للداخلية، الذي سيصبح رئيساً للحكومة خلال 1922-1924، ثم رئيساً للجمهورية، وأخيراً ملكاً خلال 1928-1939، وهو الشخصية الذي سبق مصطفى كمال بميوله للتخلّص من التركة العثمانية.
سبقت ألبانيا تركيا في العلمانية ومشاركة المرأة في الانتخاب
في هذا السياق، كان من قرارات الحكومة الجديدة نقل العاصمة إلى الداخل (تيرانا) واختيار الحروف اللاتينية رسمياً للغة الألبانية التي أصبحت كل المعاملات والصحافة والمؤلفات تصدر بها، ثم تتابعت القرارات بمنح المرأة الحق في المشاركة في الانتخابات، وبذلك كانت ألبانيا أول دولة بغالبية مسلمة تمنح هذا الحقّ للمرأة.
وفي الحقيقة، كان موضوع الأبجدية الشغل الشاغل للنخبة الألبانية في السنوات الأخيرة للحكم العثماني. فقد تداعت مجموعة من المثقّفين الألبان إلى مؤتمر للأبجدية في مدينة مناستير (جنوب مقدونيا الحالية) خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1908 حيث توافقت الغالبية على اختيار الحروف اللاتينية للغة الألبانية عوضاً عن الحروف العربية.
في ذلك الحين، كان الاتحاديون (بتياراتهم الطورانية والعثمانية والإسلامية) يوطدون سيطرتهم في العاصمة، ولذلك فهموا بسرعة أن هذه النتيجة ستدفع الشعوب الأُخرى في هذا الاتجاه، ولذلك ألقوا بكل ثقلهم لدعم الاتجاه الآخر بين الألبان الذي يميل إلى البقاء ضمن الدولة العثمانية والاستمرار بكتابة الألبانية بحروف عربية. وهكذا عقد الاتحاديون مؤتمراً آخر خلال تمّوز/ يوليو 1909 في مدينة ديبرا (جنوب مقدونيا الحالية) دعموا فيه بقوّة الاتجاه المحافظ واستحصلوا على قرار يدعو إلى الاستمرار ضمن الدولة العثمانية وإلى الاستمرار باستخدام الحروف العربية لكتابة الألبانية.
إلّا أنَّ الأمر انتقل إلى صحافة إسطنبول طوال 1909-1912، حيث حاول الاتحاديون خلق انطباع بأنّ الخلاف بشأن الأبجدية يُخفي بُعداً ثقافياً سياسياً، أي أنَّ تبنّي الحروف اللاتينية يمهّد للخروج عن الدولة العثمانية، وهو ما جعل بعض الأتراك يشاركون في ذلك النقاش أيضاً بالنسبة إلى لغتهم التي رأوا أن الحروف اللاتينية تناسبها أكثر.
وكان الألبان المسلمون، كغيرهم من مسلمي البلقان، قد أخذوا بعد الفتح العثماني لبلادهم بتجربة الأتراك في كتابة لغتهم بالحروف العربية، ونشأ مع هذا أدب استمرّ عدّة قرون سبق أن تناولتُه في كتابي "الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية" (سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1983). لكن مع نموّ الحركة القومية عند الألبان في الربع الأخير للقرن التاسع عشر، أصبحت الأبجدية على رأس الأجندة، نظراً إلى أنّ المسلمين كانوا يكتبون لغتهم بحروف عربية والكاثوليك بحروف لاتينية والأرثوذكس بحروف يونانية. وكما هو الأمر مع دين الدولة، فقد أصبح التوافق على الأبجدية وعدم الإشارة إلى دين للدولة هما الأساس لدولة قومية ألبانية، لأنه، بالمقارنة مع القوميات البلقانية الأخرى، فإن ما يجمع الألبان هو اللغة والثقافة المشتركة وليس الدين. وهكذا مع استعادة الدولة الألبانية في 1920 برز هذا التوافق من الداخل حول اعتماد أبجدية موحّدة وصيغة دستورية واحدة لا تشير إلى دين للدولة، وهو ما أخذت به الدساتير الأُخرى طوال القرن العشرين.
لكن المفارقة كانت في النصف الألباني الآخر الذي أُلحق بصربيا والجبل الأسود مع ترسيم الحدود عام 1913، ثم أصبح ضمن مملكة يوغسلافيا مع تأسيسها عام 1918. فقد اعترف النظام اليوغسلافي بالألبان كأقلية دينية (مسلمة) وليس كأقلية قومية لها حقوقها الثقافية كبقية الأقليات كالمجر والألمان وغيرهم. ولأجل ذلك، سُمح للألبان في يوغسلافيا بافتتاح مدارس دينية وليس مدارس قومية، وهو ما جعلهم يعتمدون على تراثهم الذي ورثوه عن الحكم العثماني: كتابة الألبانية بالحروف العربية إلى الحرب العامية الثانية.
من ناحية أُخرى، شهد البلقان قبل فتح القسطنطينية عام 1453 سقوط الكثير من المدن العريقة، مثل أثينا وسالونيك وسكوبيه وبلغراد وغيرها، حيث كان التقليد العثماني (قبل محمد الفاتح) يقضي باختيار أكبر كنيسة وإعدادها للصلاة في أول جمعة، ثم كان يجري بالتدريج تحويل كنائس أُخرى إلى جوامع. وإذا كان يجري هذا باسم "الفتح"، فقد حدث العكس باسم "التحرير" منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر واستمرّ حتى 1912، حيث عادت هذه الكنائس إلى ما كانت عليه في الأصل مع ما كان يثيره ذلك من حساسيات بعد أن بقيت هذه الكنائس جوامع لعدّة قرون.
وفي بعض الحالات، كان التوتر يبرز حول الأصل المختلَف عليه: هل كان في الأصل كنيسة أم بُني كجامع؟ ومن هذا ما أُثير حول "جامع القلعة" في مدينة شكودرا بشمال ألبانيا في السنوات الأخيرة. فقد بُنيت أوّلاً في الموقع كنيسة حوالى 1300م باسم القدّيس ستيفان، ثم تحوّلت إلى جامع بعدما جاء السلطان محمد الفاتح بنفسه لحصار القلعة في 1479 وأطلق عليه "جامع محمد الفاتح" حتى نهاية الحكم العثماني.
ومع تضرّر جامع القلعة، قام النظام الشيوعي في 1948 بإعلانه أثراً ثقافياً تحت حماية الدولة مع القلعة، وأصبح بهذا الشكل مفتوحاً للزيارات السياحية. ولكن بعد سقوط النظام الشيوعي عام 1992 وعودة النشاط الديني، أقامت مجموعة مسيحية الصلوات فيه خلال 2005-2017، ما كاد أن يؤدي إلى فتنة طائفية. وفي النهاية، قام عالم الآثار المعروف ألكسندر مكسي في لقاء مع شبكة "بلقان وب" في 2017 باقتراح أن يتحوّل إلى متحف قائلاً: "مَن يستخدم الدين لأغراض شرّيرة لا يؤمن بالله"، وهو ما أطفأ الفتنة بين الطرفَين، وجعل المكان متاحاً لهما معاً، وأصبح يُعرف أيضا باسم "كنيسة - جامع القلعة".
* باحث وأكاديمي كوسوفي سوري