ماذا أحدثك عن الحوار يا بنغازي؟
محمد عوض الشارف (ليبيا)
هناك حكمة تُروَى عن الأستاذ بكري قدورة، مدير الجامعة الليبية، قالها، في بداية اكتشاف النفط في ليبيا: "ستندمون يوما على اكتشاف النفط؛ لأنه كالعسل يجذب الذباب، وستعشى أبصاركم أسراب الذباب، وستضلون الطريق".
تكاثرت أسراب الذباب، من كل حدب وصوب، وارتفع طنينها، لا سيما بعد ثورة فبراير 2011، وتاه الليبيون في صراع النفوذ بين دول الهيمنة الحريصة على استمرار سيطرتها على الموارد، وحماية منابع النفط، والحفاظ على منظومة المصالح السابقة، واستغل النزاع بين الليبيين، ليكون مطية لتعميق الأزمة، وغطاء لإخفاء حقيقة الصراع على ليبيا، وهذه حقيقة يعرفها من يتابع الشأن الليبي عن كثب، بعيدا عن اللغو الإعلامي، والشعوذة السياسية.
جاءت ثورة فبراير بأول انتخابات نزيهة في يوليو/ تموز 2012، وأسست لمؤسسة سيادية منتخبة لليبيين، وهو المؤتمر الوطني، وقد أفرزت هذه الانتخابات فئات متنوعة من المجتمع، دخلت إلى المؤتمر بأهداف مختلفة. لم يلق التأسيس الشرعي للسيادة الليبية قبولاً من جماعات محلية وإقليمية ودولية، فمكروا بالليل والنهار لإفساد هذا المسرى، وإفراغه من مضمونه، ثم الانقلاب عليه بتمرد عسكري في شرق ليبيا، ومشروع وصاية في غربها.
بدأ الكيد مبكرا لمدينة بنغازي، أحد أهم معاقل القوة العسكرية للثورة، واستدرج ثوارها إلى حرب استنزاف عسكرية، وكانت الطعنة شديدة القوة للثورة في بنغازي من تجمعات الشرق الليبي، ومن بعض سكان المدينة الذين تمردوا على حظيرة العسكر. بيد أن مدينة درنة كانت في الموعد بموقفها الثوري الرافض مشروع البدونة العسكري، ومشروع الدعشنة الفوضوي، والخيط الناظم بين المشروعين تتضح معالمه يوماً بعد يوم، وطردت درنة الدواعش، وفرّت جحافلهم تشق الصحراء إلى سرت، ولم يعترض طريقها أحد من الأرض، ولا من السماء!.
حدث الأمر نفسه مع مجموعة من كتائب القذافي التي خرجت من مصر، متجهة إلى مدينة زلة الليبية، آمنة مطمئنة، لمساعدة التمرد العسكري، في محاولته للسيطرة على الهلال النفطي، فهل ستسمح الدول المتحكمة في ليبيا لمثل هذه القوة في الذهاب لنصرة ثوار بنغازي؟
وبعد التمرد العسكري في شرق ليبيا، احتد النزاع بين الليبيين، وانقسمت البلد إلى مؤسستين تشريعيتين: المؤتمر الوطني ومجلس النواب، والمفترض أن يكون مبعوث الأمم المتحدة وسيطا حياديا بينهما، وتدخلت الأمم المتحدة بين المتخاصمين، وتشابك دور الأمم المتحدة، مع دوافع بعض الدول ومصالحها. وفي الفترة التي كانت تسيطر على طرابلس كتائب متواطئة مع الثورة المضادة، كان دور الأمم المتحدة في إدارة الحوار في ليبيا يأخذ أسلوب النصح والاستشارة المعلمة، لا الملزمة، وعندما أخرجت هذه الكتائب من طرابلس، بدأ الوسيط الأممي في أسلوب الإلزام والترغيب والترهيب، فهل جاء الوسيط ليؤسس لسلام حقيقي؟ أم لإنقاذ الثورة المضادة؟
بدأت استراتيجيات الهيمنة في العملية التفاوضية بتحديد عدد المحاورين وطريقة اختيارهم، فقرّر برناردينو ليون أن يكون المتحاورون أربعة من أعضاء المؤتمر ومثلهم من مجلس النواب، وستة عشر عضوا يختارهم ليون من غير المؤسستين. وبهذه الطريقة، صار ليون وصيا على الحوار، لا طرفا محايدا في إدارته، ولا أدري إذا كانت الطريقة التي استخدمها ليون في إدارته الحوار، أو في تعيينه أعضاء الحوار أو المجلس الرئاسي وغيرها توافق طبيعة المهمة المكلف بها، ولا تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
دخل المؤتمر الوطني إلى الحوار وكان ممثلا للثوار، ولم يصل تعامل المؤتمر مع الحوارإلى مستوى اعتبار الحوار معركة استراتيجية مصيرية، تتطلب الأخذ بكل الوسائل العلمية، كما أن ضعف التكوين السياسي لأعضاء الحوار، وعدم وجود مؤسسة علمية من داخل المؤتمر أو خارجه تشرف على أداء الحوار، وخلا وفد الحوار من خبراء في مجالاتٍ مختلفة لمساعدة أعضاء الحوار في أثناء العملية التفاوضية، ولم ترتق كفاءة المحاور الحامل مطالب الثورة إلى مستوى كفاءة المقاتل الثوري.
بدأ العمل على أعضاء الحوار بوسائل الترغيب والترهيب والإحراج، وسقط من سقط في فخ الغنيمة من وفد الحوار ومن بعض أعضاء المؤتمر الوطني، وانتهج بعضهم المسالك المواربة للالتحاق بالسفينة الجديدة. وحجة الذين قلبوا ظهر المجن على المؤتمر، أن المصلحة العامة تقتضي ذلك، لكن المفسدة التي ترتبت على هذا الخيار، دقّت إسفينا بين تيار الثورة، وعمقت النزاع داخله في مرحلةٍ من أصعب المراحل التي تواجه ثورة فبراير، فأي المصلحة أولى بالاتباع، وحدة الصف أم شقه؟
ومن المفارقات تأكيد المجتمع الدولي دعمه الاتفاق وحكومة الوفاق، وينص الاتفاق في مادته الثامنة والثلاثون على وقف إطلاق النار الشامل في جميع أرجاء ليبيا، ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق (17 ديسمبر/ كانون أول 2015)، ولم يتوقف إطلاق النار، فهل المجتمع الدولي عاجز عن وقف إطلاق النار؟
يبدو أن نتائج الحوار الليبي ـ الأممي ما هو إلا جسر لمشروع ستتضح معالمه قريباً، وما يحدث، في هذه المرحلة، هو البحث عن صيغةٍ تجمع بين التمرد العسكري في شرق ليبيا ومشروع الوصاية في غربها، ويستمر بقاء حرص الدول المتحكمة في ليبيا على حالة الاستنزاف السياسي والعسكري إلى أن يستنفد الصف الثوري قواه، ويبقى الدم الليبي المسفوح يسفك بين قرابين الصراع الذبابي على تـقاسم الحلوى.
تكاثرت أسراب الذباب، من كل حدب وصوب، وارتفع طنينها، لا سيما بعد ثورة فبراير 2011، وتاه الليبيون في صراع النفوذ بين دول الهيمنة الحريصة على استمرار سيطرتها على الموارد، وحماية منابع النفط، والحفاظ على منظومة المصالح السابقة، واستغل النزاع بين الليبيين، ليكون مطية لتعميق الأزمة، وغطاء لإخفاء حقيقة الصراع على ليبيا، وهذه حقيقة يعرفها من يتابع الشأن الليبي عن كثب، بعيدا عن اللغو الإعلامي، والشعوذة السياسية.
جاءت ثورة فبراير بأول انتخابات نزيهة في يوليو/ تموز 2012، وأسست لمؤسسة سيادية منتخبة لليبيين، وهو المؤتمر الوطني، وقد أفرزت هذه الانتخابات فئات متنوعة من المجتمع، دخلت إلى المؤتمر بأهداف مختلفة. لم يلق التأسيس الشرعي للسيادة الليبية قبولاً من جماعات محلية وإقليمية ودولية، فمكروا بالليل والنهار لإفساد هذا المسرى، وإفراغه من مضمونه، ثم الانقلاب عليه بتمرد عسكري في شرق ليبيا، ومشروع وصاية في غربها.
بدأ الكيد مبكرا لمدينة بنغازي، أحد أهم معاقل القوة العسكرية للثورة، واستدرج ثوارها إلى حرب استنزاف عسكرية، وكانت الطعنة شديدة القوة للثورة في بنغازي من تجمعات الشرق الليبي، ومن بعض سكان المدينة الذين تمردوا على حظيرة العسكر. بيد أن مدينة درنة كانت في الموعد بموقفها الثوري الرافض مشروع البدونة العسكري، ومشروع الدعشنة الفوضوي، والخيط الناظم بين المشروعين تتضح معالمه يوماً بعد يوم، وطردت درنة الدواعش، وفرّت جحافلهم تشق الصحراء إلى سرت، ولم يعترض طريقها أحد من الأرض، ولا من السماء!.
حدث الأمر نفسه مع مجموعة من كتائب القذافي التي خرجت من مصر، متجهة إلى مدينة زلة الليبية، آمنة مطمئنة، لمساعدة التمرد العسكري، في محاولته للسيطرة على الهلال النفطي، فهل ستسمح الدول المتحكمة في ليبيا لمثل هذه القوة في الذهاب لنصرة ثوار بنغازي؟
وبعد التمرد العسكري في شرق ليبيا، احتد النزاع بين الليبيين، وانقسمت البلد إلى مؤسستين تشريعيتين: المؤتمر الوطني ومجلس النواب، والمفترض أن يكون مبعوث الأمم المتحدة وسيطا حياديا بينهما، وتدخلت الأمم المتحدة بين المتخاصمين، وتشابك دور الأمم المتحدة، مع دوافع بعض الدول ومصالحها. وفي الفترة التي كانت تسيطر على طرابلس كتائب متواطئة مع الثورة المضادة، كان دور الأمم المتحدة في إدارة الحوار في ليبيا يأخذ أسلوب النصح والاستشارة المعلمة، لا الملزمة، وعندما أخرجت هذه الكتائب من طرابلس، بدأ الوسيط الأممي في أسلوب الإلزام والترغيب والترهيب، فهل جاء الوسيط ليؤسس لسلام حقيقي؟ أم لإنقاذ الثورة المضادة؟
بدأت استراتيجيات الهيمنة في العملية التفاوضية بتحديد عدد المحاورين وطريقة اختيارهم، فقرّر برناردينو ليون أن يكون المتحاورون أربعة من أعضاء المؤتمر ومثلهم من مجلس النواب، وستة عشر عضوا يختارهم ليون من غير المؤسستين. وبهذه الطريقة، صار ليون وصيا على الحوار، لا طرفا محايدا في إدارته، ولا أدري إذا كانت الطريقة التي استخدمها ليون في إدارته الحوار، أو في تعيينه أعضاء الحوار أو المجلس الرئاسي وغيرها توافق طبيعة المهمة المكلف بها، ولا تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
دخل المؤتمر الوطني إلى الحوار وكان ممثلا للثوار، ولم يصل تعامل المؤتمر مع الحوارإلى مستوى اعتبار الحوار معركة استراتيجية مصيرية، تتطلب الأخذ بكل الوسائل العلمية، كما أن ضعف التكوين السياسي لأعضاء الحوار، وعدم وجود مؤسسة علمية من داخل المؤتمر أو خارجه تشرف على أداء الحوار، وخلا وفد الحوار من خبراء في مجالاتٍ مختلفة لمساعدة أعضاء الحوار في أثناء العملية التفاوضية، ولم ترتق كفاءة المحاور الحامل مطالب الثورة إلى مستوى كفاءة المقاتل الثوري.
بدأ العمل على أعضاء الحوار بوسائل الترغيب والترهيب والإحراج، وسقط من سقط في فخ الغنيمة من وفد الحوار ومن بعض أعضاء المؤتمر الوطني، وانتهج بعضهم المسالك المواربة للالتحاق بالسفينة الجديدة. وحجة الذين قلبوا ظهر المجن على المؤتمر، أن المصلحة العامة تقتضي ذلك، لكن المفسدة التي ترتبت على هذا الخيار، دقّت إسفينا بين تيار الثورة، وعمقت النزاع داخله في مرحلةٍ من أصعب المراحل التي تواجه ثورة فبراير، فأي المصلحة أولى بالاتباع، وحدة الصف أم شقه؟
ومن المفارقات تأكيد المجتمع الدولي دعمه الاتفاق وحكومة الوفاق، وينص الاتفاق في مادته الثامنة والثلاثون على وقف إطلاق النار الشامل في جميع أرجاء ليبيا، ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق (17 ديسمبر/ كانون أول 2015)، ولم يتوقف إطلاق النار، فهل المجتمع الدولي عاجز عن وقف إطلاق النار؟
يبدو أن نتائج الحوار الليبي ـ الأممي ما هو إلا جسر لمشروع ستتضح معالمه قريباً، وما يحدث، في هذه المرحلة، هو البحث عن صيغةٍ تجمع بين التمرد العسكري في شرق ليبيا ومشروع الوصاية في غربها، ويستمر بقاء حرص الدول المتحكمة في ليبيا على حالة الاستنزاف السياسي والعسكري إلى أن يستنفد الصف الثوري قواه، ويبقى الدم الليبي المسفوح يسفك بين قرابين الصراع الذبابي على تـقاسم الحلوى.