11 أكتوبر 2024
ماذا بعد تفجير المدينة المنورة؟
مع وصول التفجيرات الإجرامية إلى المدينة المنورة، قرب الحرم النبوي الشريف، فإن ثمة سؤالاً يطرح نفسه حول ما إذا كان قد انفرط عقد مسبحة منطقتنا أم أنه على وشك؟
لا يمكن، بل ولا ينبغي، المرور على تفجير المدينة مرور الكرام، فالمدينة المنورة، وفي القلب منها الحرم النبوي الشريف، يختزنان مكانةً خاصةً مقدّسةً في الوعي الإسلامي، فهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسجده هو ثاني مقدّس في الإسلام بعد المسجد الحرام. وبالتالي، أن يتجرأ مسلم، مهما كان مذهبه ومهما كانت دوافعه، على التعدّي على حرمة المكان ورمزيته، فذلك يستدعي قرع أجراس الإنذار كلها. فنهاية الطريق الذي نسير فيه، إن لم نغيّره، لا تكاد تخطئها عين، وهي، باختصار، فوضى مدمرة تعم المنطقة بأسرها، بحيث لن تبقى حبيسة حدود سورية والعراق واليمن وليبيا، بل ستطاول حتى تلك الدول التي ظنت يوماً أنها محصّنة منها، بل وساهمت في هندستها من قبل، ولا زالت، قبل أن تفلت بعض خيوط اللعبة من أيديها. فبعد جريمة المدينة، لم تبق حرمة لشيء، ولم يعد أحد محصّناً من رياح السموم التي تعصف بمنطقتنا وبنا.
قد يجادل بعضهم أن العقل المدبر وراء تفجير المدينة، وكذلك جدة والقطيف في المملكة العربية السعودية، وقبلها، العمليات الإجرامية في تركيا وبنغلادش والعراق ولبنان واليمن والأردن.. إلخ، أجهزة استخباراتية إقليمية ودولية، وهو أمر غير مستبعد، لكن الحقيقة المُرَّةِ هنا أن المنفذين "سُنَّة". سيقول آخرون إن أولئك المنفذين "السُنَّةِ" قد تعرّضوا لعمليات "غسيل دماغ" من تلك الأجهزة الاستخباراتية، لحملهم على تنفيذ جرائمهم. وهذا، أيضاً، غير مستبعد، لكننا لن نستطيع أن ننكر أن المادة التي "تُغْسَلُ" بها أدمغتهم إنما هي مقولات تحمل زعم أنها "فقهية سُنِّيَةٍ"، وهي في حقيقتها منبتة وخبيثة.
وعلى الرغم من خطورة ما سبق، ينبغي التنبيه إلى أن هذا المزعوم زوراً وبهتاناً "فقهاً"، وهو مبتورٌ وفاسد، ليس وليد الساعة، بل تعود جذوره إلى صدر الإسلام الأول، وفي حياة الرسول الأكرم عليه السلام الذي حذّر منه وتصدّى له. وقد ورد في الصّحاح، كما في حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قصة ذلك الأعرابي الفظ الذي شكّك في أمانة الرسول عليه السلام، فنظر إليه وهو مولٍّ، وقال: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ". وجاء في حديث مسلم أن سهل بن حنيف، رضي الله عنه، سئل إن كان سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج، فقال: "سمعته، وأشار بيده نحو المشرق، قوم يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". وفي حديثٍ ثالث في سنن ابن ماجة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول الناس، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون عن الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية".
إذن، هذا الفكر المنحرف موجود قديماً، غير أنه لا يجد تعبيراتٍ عن نفسه إلا في محطات
الفتن والفوضى، ولم تنفض الريح الغبار عن سمومه اليوم إلا لأن ثمّة بيئة ملائمة وحاضنة سمحت بانبثاقه مرة أخرى. الأدهى أننا نحن، شعوباً وأنظمة، ساهمنا في بَعْثِ هذا الشيطان من جديد. نعم، كلنا متورّطون في جريمة التطرف والإرهاب المجنون الذي يُفَرِّغُ غضبه فينا وفيما يضعفنا. فالأنظمة القمعية العربية مسؤولة عن تَخْليقِ هذا الوحش، ذلك أنها لم تترك خياراتٍ كثيرة لشعوبها، فكان أن انحاز جزءٌ منها للتطرّف والإرهاب. ونحن، كشعوب، بسكوتنا على الظلم، عقوداً طويلة، بل وتسويغه، بثثنا الروح في وحش هذا الفكر المسموم. طبعاً، هذا لا يعفي لاعبين آخرين، إقليمين ودوليين، من ذنب الاشتراك في الجريمة. فالولايات المتحدة، وكثير من الغرب، ليسوا بريئين، وهم من دعم دكتاتورياتنا عقوداً طويلة، وكان غزو العراق واحتلاله عام 2003 مقدمة الانهيار الجاري في المنطقة. أيضاً، إسرائيل مشاركة في الجريمة، فتمريغها كرامتنا بالأرض غير مرّة أجج تيار الغضب. ولا يمكن تبرئة إيران المتورّطة في سفك دمائنا في العراق وسورية واليمن، ولا روسيا التي لم تفوّت فرصة المشاركة في سحقنا في سورية. إنه حصاد زرعنا المُرِّ كأمَّة، أنظمةً وشعوباً، فاستأسد البُغاث علينا، بل وشاركناهم سفك دمائنا بأيدينا، كما في سورية واليمن وليبيا ومصر.
وتتضاعف معضلتنا إذا ما ذَكَّرْنا أننا نحن، كأمَّة، من يدفع الثمن الحقيقي والأكبر لهذه الفوضى التي هُنْدِّسَتْ في منطقتنا، وكان بعض أنظمتنا شريكاً فيها، قبل أن يتحوّلوا، هم أنفسهم، إلى ضحايا لها. منطقتنا العربية والإسلامية، اليوم، مثل كرة صوف يتلاعب بها قط، وربما قطط، بين مخالبها. صحيح أن "داعش" يمثل كارثةً، لكنه أداة أيضاً، سواء طواعية أم حماقة، يوظفها خصومنا ضدنا لتمزيقنا شَرَّ ممزق. ما يجري اليوم يبدو كخطوات تمهيدية لشيء أكبر قادم، ومن ذلك إعادة رسم المنطقة، وتحديداً "السُنِّيَةِ" منها، جغرافياً وسياسياً وثقافياً، وتفجيرات الحرم النبوي، وغيرها، تدخل في هذا السياق، بما في ذلك إحياء المطالب الإيرانية بنزع الولاية السعودية على الحرمين الشريفين.
ما لا تريد بعض أنظمتنا أن تفهمه أنه لا ينظر لها اليوم كـ"شريك" في المحاور الإقليمية والدولية (الأميركية والغربية- الروسية- الإسرائيلية- الإيرانية) التي تعيد صياغة منطقتنا، بل إنها هي نفسها معنا، نحن الشعوب، على موائد اللئام. تُرى، هل تدرك بعض الأنظمة العربية التي اختارت طريق سحق شعوبها، وظنت أنها قد تَمَكَّنَتْ.. هل تدرك ذلك قبل فوات الأوان؟ أتمنى ذلك، وإنْ كان ذلك مستبعداً، إن لم يكن مستحيلاً. منطقتنا مقبلة على تغييراتٍ جذريةٍ تطاولنا جميعاً، شعوباً ودولاً وأنظمة، وإن لم نسارع إلى اجتراح مصالحاتٍ حقيقية، تقوم على أساس دولة القانون والعدل والمساواة، وتنخرط في صيغةٍ ما للتكامل، فاقرأ علينا السلام، وهو الأقرب إلى التحقّق اليوم في ظل العناد الأحمق الذي يمارسه بعضهم، في حين يمزقنا أعداؤنا، أو يُراقِبونَ تمزقنا، بـ"داعش"، وقبلها بدكتاتورياتٍ لا تقلّ همجيةً وحماقةً وإجراماً عن "داعش"، بل إنها من آبائها الشرعيين.
لا يمكن، بل ولا ينبغي، المرور على تفجير المدينة مرور الكرام، فالمدينة المنورة، وفي القلب منها الحرم النبوي الشريف، يختزنان مكانةً خاصةً مقدّسةً في الوعي الإسلامي، فهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسجده هو ثاني مقدّس في الإسلام بعد المسجد الحرام. وبالتالي، أن يتجرأ مسلم، مهما كان مذهبه ومهما كانت دوافعه، على التعدّي على حرمة المكان ورمزيته، فذلك يستدعي قرع أجراس الإنذار كلها. فنهاية الطريق الذي نسير فيه، إن لم نغيّره، لا تكاد تخطئها عين، وهي، باختصار، فوضى مدمرة تعم المنطقة بأسرها، بحيث لن تبقى حبيسة حدود سورية والعراق واليمن وليبيا، بل ستطاول حتى تلك الدول التي ظنت يوماً أنها محصّنة منها، بل وساهمت في هندستها من قبل، ولا زالت، قبل أن تفلت بعض خيوط اللعبة من أيديها. فبعد جريمة المدينة، لم تبق حرمة لشيء، ولم يعد أحد محصّناً من رياح السموم التي تعصف بمنطقتنا وبنا.
قد يجادل بعضهم أن العقل المدبر وراء تفجير المدينة، وكذلك جدة والقطيف في المملكة العربية السعودية، وقبلها، العمليات الإجرامية في تركيا وبنغلادش والعراق ولبنان واليمن والأردن.. إلخ، أجهزة استخباراتية إقليمية ودولية، وهو أمر غير مستبعد، لكن الحقيقة المُرَّةِ هنا أن المنفذين "سُنَّة". سيقول آخرون إن أولئك المنفذين "السُنَّةِ" قد تعرّضوا لعمليات "غسيل دماغ" من تلك الأجهزة الاستخباراتية، لحملهم على تنفيذ جرائمهم. وهذا، أيضاً، غير مستبعد، لكننا لن نستطيع أن ننكر أن المادة التي "تُغْسَلُ" بها أدمغتهم إنما هي مقولات تحمل زعم أنها "فقهية سُنِّيَةٍ"، وهي في حقيقتها منبتة وخبيثة.
وعلى الرغم من خطورة ما سبق، ينبغي التنبيه إلى أن هذا المزعوم زوراً وبهتاناً "فقهاً"، وهو مبتورٌ وفاسد، ليس وليد الساعة، بل تعود جذوره إلى صدر الإسلام الأول، وفي حياة الرسول الأكرم عليه السلام الذي حذّر منه وتصدّى له. وقد ورد في الصّحاح، كما في حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قصة ذلك الأعرابي الفظ الذي شكّك في أمانة الرسول عليه السلام، فنظر إليه وهو مولٍّ، وقال: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ". وجاء في حديث مسلم أن سهل بن حنيف، رضي الله عنه، سئل إن كان سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج، فقال: "سمعته، وأشار بيده نحو المشرق، قوم يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". وفي حديثٍ ثالث في سنن ابن ماجة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول الناس، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون عن الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية".
إذن، هذا الفكر المنحرف موجود قديماً، غير أنه لا يجد تعبيراتٍ عن نفسه إلا في محطات
وتتضاعف معضلتنا إذا ما ذَكَّرْنا أننا نحن، كأمَّة، من يدفع الثمن الحقيقي والأكبر لهذه الفوضى التي هُنْدِّسَتْ في منطقتنا، وكان بعض أنظمتنا شريكاً فيها، قبل أن يتحوّلوا، هم أنفسهم، إلى ضحايا لها. منطقتنا العربية والإسلامية، اليوم، مثل كرة صوف يتلاعب بها قط، وربما قطط، بين مخالبها. صحيح أن "داعش" يمثل كارثةً، لكنه أداة أيضاً، سواء طواعية أم حماقة، يوظفها خصومنا ضدنا لتمزيقنا شَرَّ ممزق. ما يجري اليوم يبدو كخطوات تمهيدية لشيء أكبر قادم، ومن ذلك إعادة رسم المنطقة، وتحديداً "السُنِّيَةِ" منها، جغرافياً وسياسياً وثقافياً، وتفجيرات الحرم النبوي، وغيرها، تدخل في هذا السياق، بما في ذلك إحياء المطالب الإيرانية بنزع الولاية السعودية على الحرمين الشريفين.
ما لا تريد بعض أنظمتنا أن تفهمه أنه لا ينظر لها اليوم كـ"شريك" في المحاور الإقليمية والدولية (الأميركية والغربية- الروسية- الإسرائيلية- الإيرانية) التي تعيد صياغة منطقتنا، بل إنها هي نفسها معنا، نحن الشعوب، على موائد اللئام. تُرى، هل تدرك بعض الأنظمة العربية التي اختارت طريق سحق شعوبها، وظنت أنها قد تَمَكَّنَتْ.. هل تدرك ذلك قبل فوات الأوان؟ أتمنى ذلك، وإنْ كان ذلك مستبعداً، إن لم يكن مستحيلاً. منطقتنا مقبلة على تغييراتٍ جذريةٍ تطاولنا جميعاً، شعوباً ودولاً وأنظمة، وإن لم نسارع إلى اجتراح مصالحاتٍ حقيقية، تقوم على أساس دولة القانون والعدل والمساواة، وتنخرط في صيغةٍ ما للتكامل، فاقرأ علينا السلام، وهو الأقرب إلى التحقّق اليوم في ظل العناد الأحمق الذي يمارسه بعضهم، في حين يمزقنا أعداؤنا، أو يُراقِبونَ تمزقنا، بـ"داعش"، وقبلها بدكتاتورياتٍ لا تقلّ همجيةً وحماقةً وإجراماً عن "داعش"، بل إنها من آبائها الشرعيين.