01 نوفمبر 2024
ماذا لو لم يكن مرسي إسلامياً؟
صادفت يوم الأربعاء الماضي، 17 من يونيو/ حزيران، الذكرى الأولى لوفاة، أو إن شئت الدقة والموضوعية، فقل استشهاد، الدكتور محمد مرسي، الرئيس المصري السابق في سجون الانقلابيين. كان أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر. لم يأت إلى الحكم عبر تزوير في صناديق الاقتراع، ولا هو هبط عليه مَأْزوراً بانقلاب عسكري، ولم تُمَكِّنْ له أموال مسروقة من عرق الشعب وقوته وثرواته، كما لم يكن رئيساً تمَّ التجديد له آلياً، كما هو حال جُلِّ ما يعرف بـ"الجملوكيات العربية". على العكس، فاز مرسي، عام 2012، مرشحاً لثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، في انتخابات تاريخية، حرة ونزيهة، متفوقاً بأغلبية ضئيلة جداً (51.73%) على مرشح كانت تفضله وتدعمه كثير من أجهزة الدولة العميقة، الفريق أحمد شفيق. وخلال عام من فترة رئاسته القصيرة التي لم يُمَكَّن فيها من الحكم بفعالية، لم تسجل عليه خيانة لبلده ولا لشعبه ولا لأمته، ولم تعرف عنه محاولة للبطش بخصومه، أو لسفك دمائهم، ولم يضبط متلبساً بفساد أو إسراف أو محاولة نهب، ولم يقبل أن تكون مصر تحت رئاسته، مهما كان، ملجومة الصلاحيات متآمرا عليها، في خندق أعداء العرب والمسلمين، وهو لم يفرّط يوماً بأراضيها أو سيادتها أو مصالحها القومية والاستراتيجية.
لو توفرت الصفات السابقة في رئيس آخر، غير مرسي "الإسلامي"، عربياً كان أو غير ذلك،
لتمت "أيقنته"، ولسال مداد كُتَّابٍ عرب، من كل التيارات الفكرية، تمتدحه وتقرّظ تجربته، وتعلي من شأن الشعب الذي انتخبه. تُرى كم من المقالات كتبت، عربياً، حول زهد رئيس الأوروغواي السابق، خوزيه موخيكا، ونزاهته؟ كم من المقالات كتبت تتيماً بالرئيسين الراحلين، الكوبي، فيدل كاستر، والفنزويلي، هوغو تشافيز؟ بل وكم من مقال كتب دفاعاً عن الرئيس الفنزويلي الحالي، نيكولاس مادورو، ورئيس بوليفيا السابق، إيفو موراليس؟ لا أنفي استحقاق أيٍّ من هؤلاء للثناء والتأييد، سواء لنزاهة بعضهم أم نضال بعضهم الآخر ضد الإمبريالية الغربية، من دون أن يعني ذلك بالطبع التوافق معهم في كل شيء وفي كل قضية. أما مرسي، الذي لا يتضاءل سجله النضالي من أجل وطنه وشعبه أمام هؤلاء، والذي جاء إلى الرئاسة نظيف اليد زاهداً متواضعاً، وبقي خلالها الرجل نفسه، وَخُلِعَ منها في انقلاب عسكري مكتمل الأركان، فيبدو أن بواكيه قليلون، وهذا ما يستدعي سؤالاً مركزياً: ألأنه إسلامي وإخواني؟
شخصياً، أزعم أن هذا هو المحدّد الأساس عند كثيرين في الموقف من الرجل. إنه التحيز الأعمى، والتعصب الإيديولوجي، اللذيْن، للمفارقة، يتهم بهما الإخوان المسلمون، والإسلاميون عموماً. كان الاتهامان سيكونان في محلهما، لو تمَّ وضعهما في سياقهما النسبي، لا في الإطلاق. وكانا سيكونان صحيحيْن كذلك، لو تمَّ شمل من يوجهون أصابع الاتهام أنفسهم فيه. أما قصْرهما على الإخوان والإسلاميين فحسب، ففيه شطط قيمي وتعسّف منهجي، بل وتردّ أخلاقي. ولكن الركاكة والضحالة إن صدرتا عن غير الإسلاميين فهما متجاوزٌ عنهما في العادة، ولا يخضعان للتدقيق والتنميط ذاتهما، أما حين تصدران عن إسلاميٍّ فتستل السكاكين. وأعجب كيف أن بعضنا اليوم، نحن أهل الكتابة والرأي، انكفأ محقاً على الذات، ناقداً لها، على وقع المظاهرات المندّدة بالتمييز العنصري في أميركا، ومتقصياً خيوط العنصرية المتفشية بيننا نحن العرب، سواء على أرضية العرق أم الدين أم اللون أم الهوية الوطنية، ولكنه لا يقيم اعتباراً للتمييز البغيض في المقاربة والحكم على المخالف لنا إيديولوجياً وسياسياً، بل إنه لا يتورّع عن دعم حملات التنكيل والبطش بهم!
مرسي أحد ضحايا ذلك التحيز الأعمى والتعصب الإيديولوجي والسياسي. عادتْه "الدولة العميقة" وتحالف الفساد في مصر منذ اليوم الأول لرئاسته. كما عاداه محور الشر العربي، أو معسكر الثورات المضادة. أما إسرائيل والغرب فحدّث ولا حرج، ولمن أراد أن يعرف حقيقة الموقف الأميركي من رئاسة مرسي والانقلاب عليه، فليرجع إلى كتاب مراسل صحيفة نيويورك تايمز في مصر، سابقا، ديفيد كيركباتريك، "في أيدي العسكر". لكن المفاجأة في هذا السياق كانت في موقف كثير من قوى الثورة المدنية المصرية من الرجل ورئاسته. الحقيقة التي لا يحب كثيرون الاعتراف بها أن بعض القوى "التقدّمية" و"الليبرالية" و"العلمانية" لم تستطع أن تهضم "إسلامياً ملتحياً" في الرئاسة، حتى وإن جاء عبر صناديق الاقتراع. منذ بواكير رئاسته، بدأوا يثيرون أسئلة مستفزّة حول كفاءته. رأوا الرمد في عيني مرسي، واختاروا أن يتجاهلوا الجذع في أعينهم، دع عنك الخبث والمكر في أعين المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن والقضاء والإعلام ورؤوس الأموال. لم يبحثوا له عن أي عذر، رفضوا عروضاً كثيرة منه لتولي رئاسة الوزراء ومناصب كبيرة، بل ووصلت البجاحة ببعضهم إلى حَدّ أن طالبوه بالاستقالة، وإفساح المجال لمن ليس له قاعدة شعبية تؤهله للمنافسة في الانتخابات!
لا أدافع هنا عن قرار الإخوان المسلمين خوض الانتخابات الرئاسية حينها، وهم قد علّلوه أخيرا،
وشرحوا من وجهة نظرهم السياق الذي قاد إليه. لا يهم أقبلنا ذلك أم لا. المسألة ليست محصورة في المنافسة على الرئاسة، ومدى صحة ذلك أم خطئه. المشكلة الحقيقية هي في تورّط كثيرين ممن كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين في مؤامرة الانقلاب الدموية والمجرمة، وما ترتب عليها من إجهاضٍ مضاعف لمصر. لم يكتشف هؤلاء جريمتهم إلا متأخرين، وحذاء العسكر على رقابهم. المفارقة، أن جُلَّهُم حمّلوا "الإخوان" مسؤولية حماقتهم. قليلون من بينهم من ملك الجرأة والشجاعة على الإقرار بالخطيئة التي ارتكبوها. وها أنت ترى اليوم الشخصيات والقوى نفسها التي كانت ألسنتها مشرعةً سليطة، بمن فيهم إسلاميون أيضاً، على مرسي، إما مذعورين يرجون السلامة، أو أنهم في المنافي، أو السجون، أو بلغ بهم الاضطرار والخوف درجة إغلاق حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، فعصا الانقلابي، عبد الفتاح السيسي، غليظة، لا يمكن مقارنتها بأخلاق مرسي ورأفته! ومع ذلك، الحق على مرسي والإخوان فهم أوصلونا إلى هذا الحال! أي استعباط هذا واستغفال.
لم يسمسر مرسي على أراضي مصر، لم يعط سيناء للفلسطينيين كما كانوا يزعمون، ولم يكن عميلاً لقطر ولا لتركيا كما كانوا يأفكون. جاء السيسي "المنقذ" الذي وقفوا وراءه، فتنازل عن أراضٍ مصرية مقابل المال السعودي الحرام الذي لا يذهب إلى الشعب، وإنما لمن ينتهك آدميته. جعل من مصر الكبيرة ملحقاً بجهازي المخابرات السعودي والإماراتي، ووزارتي خارجيتهما. أعاد فرض الحصار اللئيم على قطاع غزة، ووقف مع عدوان إسرائيل الوحشي عليه عام 2014، فيما كان محمد مرسي قد وقف مع غزة خلال عدوان 2012. لم يتنازل مرسي عن مياه النيل، ولكن السيسي ببلاهته وانعدام كفاءته يفعل. لم يكن جيش مصر مرتزقةً عند من يدفع أكثر أيام مرسي، ولكن هذا يحصل تحت السيسي. ومع ذلك الحق على "الإخوان" ومرسي! تُرى أين أولئك الذين كانوا يستهزئون بخطابات مرسي وتصريحاته، وهم يتابعون اليوم كوميديا السيسي السوداء؟
لا يعني أيٌّ مما سبق أن مرسي كان بلا أخطاء، ولكنه قطعاً كان أشرف ألف مرة من معظم
زعماء "الجملوكيات العربية" وممالكها. وإذا كانت نهاية الثورة المصرية نتيجة غباء، إذن، فالكل فيه شركاء، ولكن حصة بعضٍ من كانوا يعدّون أنفسهم في صفوف "الثورة المدنية" أكبر. ومع ذلك، إنه خطأ الإخوان، تلك هي "الحكمة السائدة" التي هي ليست بحكمة، ولكنها تحيز وتعصب وبلاهة.
نعم، رحم الله الرئيس الشهيد محمد مرسي، والذي مات مظلوماً من خصومه، وكثيرين ممن يحسبون أنفسهم عليه وعلى تياره، إذ لم يرعوا له ذمّة ولا كرامة. قضى الرجل نحبه، صابراً وشامخاً، بعد سنوات ست في أقبية الانقلاب، ولحق به ابنه الأصغر، عبد الله، بعد ثلاثة أشهر في ظروفٍ غامضة، ولا يزال ابنه الأكبر، المحامي أسامة، في السجن تعسفياً، في حين ينكّل يومياً بعائلته، من دون أن يستثير ذلك عطف بعض أدعياء الثورية المدنية، أو الإسلامية السلفية، وغضبهم. وعلى الرغم من ذلك كله، ثمَّة من لا زال يسأل كيف يحكمنا في "جمهوريات" أمثال بشار الأسد، ومن قبله معمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وحسني مبارك، يطمعون بتوارثنا جيلاً بعد جيل؟ ولمَ لا، فبشار قد ورث حافظا. الأدهى أن هناك اليوم من يسأل: ماذا دها مصر، التي أصبحت أنموذجاً مُعَزَزاً للقمع والفساد والفقر والفشل والتخلف؟ لا تذهبوا بعيداً في الإجابة، الإخوان ومرسي هما السبب، أما أنتم والسيسي فأعراض جانبية!
رحم الله الرئيس الشهيد، محمد مرسي. للأسف، لقد ساهم مغفلون في إجهاض تجربةٍ كان يمكن أن تؤسس لفضاء حرية جديد، وتداول سلمي للسلطة في خضم حطام العرب. مصر ليست تونس، لو نجحت فيها التجربة لكان الحال اليوم غير الحال، ولذلك تآمروا على وأدها في مهدها.
شخصياً، أزعم أن هذا هو المحدّد الأساس عند كثيرين في الموقف من الرجل. إنه التحيز الأعمى، والتعصب الإيديولوجي، اللذيْن، للمفارقة، يتهم بهما الإخوان المسلمون، والإسلاميون عموماً. كان الاتهامان سيكونان في محلهما، لو تمَّ وضعهما في سياقهما النسبي، لا في الإطلاق. وكانا سيكونان صحيحيْن كذلك، لو تمَّ شمل من يوجهون أصابع الاتهام أنفسهم فيه. أما قصْرهما على الإخوان والإسلاميين فحسب، ففيه شطط قيمي وتعسّف منهجي، بل وتردّ أخلاقي. ولكن الركاكة والضحالة إن صدرتا عن غير الإسلاميين فهما متجاوزٌ عنهما في العادة، ولا يخضعان للتدقيق والتنميط ذاتهما، أما حين تصدران عن إسلاميٍّ فتستل السكاكين. وأعجب كيف أن بعضنا اليوم، نحن أهل الكتابة والرأي، انكفأ محقاً على الذات، ناقداً لها، على وقع المظاهرات المندّدة بالتمييز العنصري في أميركا، ومتقصياً خيوط العنصرية المتفشية بيننا نحن العرب، سواء على أرضية العرق أم الدين أم اللون أم الهوية الوطنية، ولكنه لا يقيم اعتباراً للتمييز البغيض في المقاربة والحكم على المخالف لنا إيديولوجياً وسياسياً، بل إنه لا يتورّع عن دعم حملات التنكيل والبطش بهم!
مرسي أحد ضحايا ذلك التحيز الأعمى والتعصب الإيديولوجي والسياسي. عادتْه "الدولة العميقة" وتحالف الفساد في مصر منذ اليوم الأول لرئاسته. كما عاداه محور الشر العربي، أو معسكر الثورات المضادة. أما إسرائيل والغرب فحدّث ولا حرج، ولمن أراد أن يعرف حقيقة الموقف الأميركي من رئاسة مرسي والانقلاب عليه، فليرجع إلى كتاب مراسل صحيفة نيويورك تايمز في مصر، سابقا، ديفيد كيركباتريك، "في أيدي العسكر". لكن المفاجأة في هذا السياق كانت في موقف كثير من قوى الثورة المدنية المصرية من الرجل ورئاسته. الحقيقة التي لا يحب كثيرون الاعتراف بها أن بعض القوى "التقدّمية" و"الليبرالية" و"العلمانية" لم تستطع أن تهضم "إسلامياً ملتحياً" في الرئاسة، حتى وإن جاء عبر صناديق الاقتراع. منذ بواكير رئاسته، بدأوا يثيرون أسئلة مستفزّة حول كفاءته. رأوا الرمد في عيني مرسي، واختاروا أن يتجاهلوا الجذع في أعينهم، دع عنك الخبث والمكر في أعين المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن والقضاء والإعلام ورؤوس الأموال. لم يبحثوا له عن أي عذر، رفضوا عروضاً كثيرة منه لتولي رئاسة الوزراء ومناصب كبيرة، بل ووصلت البجاحة ببعضهم إلى حَدّ أن طالبوه بالاستقالة، وإفساح المجال لمن ليس له قاعدة شعبية تؤهله للمنافسة في الانتخابات!
لا أدافع هنا عن قرار الإخوان المسلمين خوض الانتخابات الرئاسية حينها، وهم قد علّلوه أخيرا،
لم يسمسر مرسي على أراضي مصر، لم يعط سيناء للفلسطينيين كما كانوا يزعمون، ولم يكن عميلاً لقطر ولا لتركيا كما كانوا يأفكون. جاء السيسي "المنقذ" الذي وقفوا وراءه، فتنازل عن أراضٍ مصرية مقابل المال السعودي الحرام الذي لا يذهب إلى الشعب، وإنما لمن ينتهك آدميته. جعل من مصر الكبيرة ملحقاً بجهازي المخابرات السعودي والإماراتي، ووزارتي خارجيتهما. أعاد فرض الحصار اللئيم على قطاع غزة، ووقف مع عدوان إسرائيل الوحشي عليه عام 2014، فيما كان محمد مرسي قد وقف مع غزة خلال عدوان 2012. لم يتنازل مرسي عن مياه النيل، ولكن السيسي ببلاهته وانعدام كفاءته يفعل. لم يكن جيش مصر مرتزقةً عند من يدفع أكثر أيام مرسي، ولكن هذا يحصل تحت السيسي. ومع ذلك الحق على "الإخوان" ومرسي! تُرى أين أولئك الذين كانوا يستهزئون بخطابات مرسي وتصريحاته، وهم يتابعون اليوم كوميديا السيسي السوداء؟
لا يعني أيٌّ مما سبق أن مرسي كان بلا أخطاء، ولكنه قطعاً كان أشرف ألف مرة من معظم
نعم، رحم الله الرئيس الشهيد محمد مرسي، والذي مات مظلوماً من خصومه، وكثيرين ممن يحسبون أنفسهم عليه وعلى تياره، إذ لم يرعوا له ذمّة ولا كرامة. قضى الرجل نحبه، صابراً وشامخاً، بعد سنوات ست في أقبية الانقلاب، ولحق به ابنه الأصغر، عبد الله، بعد ثلاثة أشهر في ظروفٍ غامضة، ولا يزال ابنه الأكبر، المحامي أسامة، في السجن تعسفياً، في حين ينكّل يومياً بعائلته، من دون أن يستثير ذلك عطف بعض أدعياء الثورية المدنية، أو الإسلامية السلفية، وغضبهم. وعلى الرغم من ذلك كله، ثمَّة من لا زال يسأل كيف يحكمنا في "جمهوريات" أمثال بشار الأسد، ومن قبله معمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وحسني مبارك، يطمعون بتوارثنا جيلاً بعد جيل؟ ولمَ لا، فبشار قد ورث حافظا. الأدهى أن هناك اليوم من يسأل: ماذا دها مصر، التي أصبحت أنموذجاً مُعَزَزاً للقمع والفساد والفقر والفشل والتخلف؟ لا تذهبوا بعيداً في الإجابة، الإخوان ومرسي هما السبب، أما أنتم والسيسي فأعراض جانبية!
رحم الله الرئيس الشهيد، محمد مرسي. للأسف، لقد ساهم مغفلون في إجهاض تجربةٍ كان يمكن أن تؤسس لفضاء حرية جديد، وتداول سلمي للسلطة في خضم حطام العرب. مصر ليست تونس، لو نجحت فيها التجربة لكان الحال اليوم غير الحال، ولذلك تآمروا على وأدها في مهدها.