في العقد الثاني من قرننا الحادي والعشرين فقط، تسنّى للقارئ العربي التعرّف إلى طرف من أطراف أدب أميركا اللاتينية يكاد يكون مجهولاً حتى في اللغات الغربية، ممثَّلاً في بعضٍ من أعمال الشاعر والروائي وكاتب المسرح الأوروغواياني ماريو بينيديتي (1920- 2009). هذه الأعمال هي رواياته الثلاث "بقايا القهوة" و"الهدنة" و"ربيع في مرآة مكسورة"، ومجموعة قصص قصيرة عنوانها "عشيقات الماضي البعيد".
صدرت هذه الأعمال بين العامين 2011 و2019، وآخرها رواية "ربيع في مرآة مكسورة" التي نقلها عن الإسبانية المترجمُ المغربي إبراهيم اليعيشي وأصدرتها "دار مسكيلياني" في تونس، وهي ذاتُها المترجمة والصادرة قبل ثماني سنوات عن "دار نينوى" في دمشق بترجمة علاء شنانة. ولم يكن الظهور المتأخّر لهذا الروائي الذي لا يقلّ أهميةً عن زملائه الآخرين من دول أميركية لاتينية أُخرى؛ من أمثال خوان رولفو، وماركيز، ويوسا، وبورخيس، وفوانتيس، وإيزابيل اللندي، في اللغة العربية فقط، بل تأخّر وصوله أيضاً إلى اللغات الأوروبية، على الرغم من أنه يُعتَبر في العالم الناطق بالإسبانية واحداً من أهمّ كتّاب أميركا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين.
يكتشف القارئ لدى اطلاعه على هذا العمل الروائي الأخير أنه لا يختلف عن أهمّ ما يميّز أعمال الروائيّين الآخرين التي جاءت إلينا من القارة اللاتينية؛ التفرُّد في كيفية القول، وفي ما يُقال ويُروى، وهما يتلاحمان في بنية واحدة، ولكن الفرادة هنا ليست في ما دُعي باسم الواقعية السحرية المشتركة بين هؤلاء الروائيّين، بقدر ما هي في كيفية ما يُقال ويُروى؛ فالرواية لا تفارق الواقع بتفاصيله السياسية والاجتماعية والثقافية، ولا تذهب في الخيال بعيداً، بل تشكّله وتقدّمه، ولكن على هيئة شظايا مرآة تعكس كل واحدة منها حديث كلّ شخصية من الشخصيات كمناجاة ذاتية، لا يتوجّه فيها الخطاب إلى أحد، باستثناء الشظايا التي يتحدّث فيها الراوي، فهذه تتوجّه إلى القارئ بوضوح. وهذا أسلوب غير مألوف على حدّ علمي في أدب أميركا اللاتينية، ولم يسبق أن اتبعه كاتب من كتّابها.
تُعَد هذه الروايةُ الوحيدةَ (من بين ثمانين عملاً من أعمال الكاتب) التي نشرها في المنفى الذي امتد 12 عاماً قضاها متنقلاً بين هذا البلد وذاك (1973 - 1985). وربما هي أكثر أعماله احتفاءً بالبساطة النادرة، أي تلك التي يصعب الوصول إليها.
قصة هذه الرواية بسيطة: سانتياغو ثوري أوروغواياني يظلّ في سجنه الذي سيتواصل لمدّة خمس سنوات دائمَ الاشتياق إلى الحرية، بينما تعيش زوجته غراسيلا وابنته بياتريس وأبوه الدون روفائيل وأصدقاؤه في المنفى. وكلُّهم يحاول تدبير شؤون حياته. وتُثقل كل شخصية تفاصيلَ حياتها بكلّ ما هو محسوس بمعزل عن الأُخرى، كما لو أن سانتياغو ليس هو وحده من يعيش في "زنزانة إسمنتية"، بل وافراد عائلته في منفاهم.
بهذه الكيفية تعيد الرواية، بأسلوبها وبنيتها، إنتاج عزلة كلّ شخصية من شخصياتها. ولكن كلمة الربيع الواردة في العنوان تظلّ ملتصقة بحياة السجين سانتياغو منذ أن علم، كما يروي أبوه في مناجاته الذاتية "إزالة الأنقاض"، أنّ والدته، مرسيدس، قالت ذات يوم: "كم سيكون جميلاً أن يموت المرءُ وهو يسمع واحداً من مقاطع معزوفة الفصول الأربعة لفيفالدي"، وبعد سنوات سكنت إلى الأبد بشكل مفاجئ وهي مستغرقة في القراءة، ونغمات مقطوعة فصل الربيع تنبعث من المذياع. ويضيف: "على الرغم من أن سانتياغو لا يذكر هذا إلّا في حالات نادرة جدّاً، إلّا أنني أعلم أن وقائع العالم بشكل عام، ووقائع عالمه الخاص، تنقسم إلى وقائع ربيعية وأخرى ربيعية قليلاً أو غير ربيعية بالمطلق.. وأفترض أن السنوات الخمس الأخيرة لم تكن تبدو له ربيعية".
إذا بدأنا بشخصية الراوي الذي يدخل في الرواية، وعلى انفرادٍ أيضاً، نجده يصف بضمير الأنا في عدّة شظايا تحمل عنوان "مَنافٍ"، سنوات المنفى التي عاشها، ومصائر من أجبروا على الهرب من الأوروغواي بعد انقلاب عام 1973 العسكري، وملاحقة حركة "التوباماروس" الثورية وأنصارها. وفي واحدة من هذه الشظايا يلتقي برجل يعيش في أستراليا، ولكنه يحلم بالانتقال إلى كوبا "التي كانت قادرة على إحداث تغيير حقيقي". وفي شظية أخرى يرثي صديقاً منفياً أُصيب بأزمة قلبية في شقّته، ولم يكتشف ما حدث له إلّا بعد ثلاثة أيام، فلم تنفع العناية المركّزة في إنقاذ حياته. ولم يكن موتُه بسبب هذه الأزمة بقدر ما كان بسبب العزلة التي عاشها، لأن الأطبّاء قالوا: لو عثر عليه في الوقت المناسب لكان من المحتمل أن يعيش.
في الشظايا الخاصة بسانتياغو، وعنوانها الدائم "خلف الجدران"، يكتب رسائله إلى زوجته غراسيلا، مع أنّه لا أمل في أن يتلقّى أجوبة بسبب الرقيب العسكري. وتتسلّم زوجته رسائله، فتثير فيها، حسب ما ترويه في الشظايا الخاصة بها، ألماً حاداً يجعلها تبتعد عنه وعن ابنتهما بياتريس وجدّها الدون روفائيل، اللذين لا يتكلّمان إلّا مع نفسيهما، ويحاول كلّ واحد منهما فهم عالمه الجديد، وتفشل جهودهما في أن يرتبط أحدهما بالآخر. وفي نهاية الرواية لا تعود حتى بياتريس تحظى باهتمام أمّها.
التواصل الناجح الوحيد الذي يحدث في أجواء العزلة المهيمنة هو التواصل بين غراسيلا ورونالدو صديق سانتياغو ورفيقه الحزبي السابق المنفي في بوينس آيرس. هنا في هذا المنفى تتنامى علاقته بالزوجة، وهو ما يوفّر لهاتين الشخصيتين حركة وزخماً، ولحظات قصيرة للإفلات من العزلة. ورونالدو هذا، شأنه شأن سانتياغو، تراوده أحاسيس الحزن على أصدقائه، من مات منهم ومن سجن في ظل الأمان الذي يعيشه في منفاه.
في أثناء ذلك، يكون سانتياغو قد حوّل زوجته إلى شخصية مثالية إلى درجة تفوق الاحتمال، فيشعر القارئ بالتعاطف معه بسبب افتقاده للمسة الإنسانية طوال خمس سنوات، ولكنه يتفهّم زوجته حين تقول إن رسائله تُقرأ "كما لو أنها موجّهة إلى شخص آخر". ويرسم تطوُّر علاقتها برونالدو أولَ نقطة تحوُّلٍ في الرواية، وكانت الثانية مع طرح السلطة العسكرية لشرعيتها للتصويت في استفتاء عام، وتُفشل المعارضة هدفها في الحصول على الشرعية. وتشيع نتائج الاستفتاء الأمل في شظايا المرآة؛ سيطلَق سراح سانتياغو، وستعود أسرته إلى وطنها.
ولكن بُنية الرواية لا تتغيّر؛ تظل المناجاة الذاتية هي الغالبة، والجدار يظل قائماً بين المؤلّف وشخصيات روايته، فهو لا يكتب عنهم أو لهم. ويظل الانقسام بين سانتياغو والعالم الخارجي. فبعد وصوله إلى بوينس آيرس لينضم إلى أسرته، نجده يروي عودته بقصيدة: "أشعر أنني غريب وأنا أطأ هذه الأرض/ السماء تمطر لحسن الحظ/ ومع المطر ينتظم الناس زوجاً زوجاً/ تصبح المظلّة قاسماً مشتركاً للإنسانية/ ولكنني سأتجاوز هذا الشعور". ويتساءل لأول مرّة عمّا إذا كانت زوجته ما زالت تحبّه، إلا أنه يبعد عنه هذا التساؤل فوراً، ويقول: "بعد هذه السنوات الشتائية الخمس، لن يسرق أحد منّا الربيع".
* ينتمي ماريو بينيديتي إلى حركة أدبية وفكرية عرفت باسم "جيل 1945"، ضمّت أفضل كتّاب وفناني وشعراء الأوروغواي المعروفين على نطاق واسع؛ من أمثال إيدا فيتالي، وخوان كارلوس أونيتي، وإيديا بيلا رينيو وآخرين. نَشر قرابة ثمانين كتاباً تُرجم كثير منها إلى قرابة عشرين لغة. من مؤلّفاته في القصّة: "هذا الصباح وقصص أخرى" (1949)، و"أهالي مونتيفيديو" (1959)، و"بريد الوقت" (1999)، وفي الرواية: "الهدنة" (1960)، و"عيد ميلاد خوان أنخل (1971)، و"أنداميوس" (1996)، وفي الشعر: "فقط وفي تلك الأثناء" (1950)، و"عندما كُنّا أطفالاً" (1964)، و"الحياة هي تلك الفترة الفاصلة" (1998). وفي المسرح "بيدرو والنقيب" (1979)، و"الرحيل" (2008).
** برحيل جيل مخضرم من المترجمين العرب من الإسبانية، تبرز ملامح جيل جديد متمكن من أدواته يواصل هذه المسيرة. ولعل إبراهيم اليعشي (1990/ الصورة) الذي يترجم من الإسبانية وإليها أحد أصغر هؤلاء سناً. ويمكن ذكر جعفر العلوني من سورية (1989) الذي يترجم من الإسبانية وإليها أيضاً وتتنوّع ترجماته بين الشعر والرواية والمسرح والفكر، ومارك جمال (1985) من مصر الذي ترجم للعربية سبعة أعمال من بينها "خريف البطريرك" لماركيز.