11 سبتمبر 2024
مالي .. هل يصمد الاتفاق مع الأزواد؟
يأخذ حمي آغ يحيا قسطاً من راحة محارب تحت شجرة سدرة في صحراء إقليم أزواد شمال دولة مالي، لا يعبأ كثيراً بتوقيع تنسيقية حركات الأزواد التي ينتمي إليها اتفاق السلام والمصالحة الوطنية مع حركات أخرى ومع السلطات في العاصمة باماكو. يعتقد هذا المحارب الشرس أن الاتفاقية الجديدة لم تمنحهم أكثر من لامركزية إدارية بسيطة في الإقليم، بينما هم أعلنوا دولة مستقلة في الإقليم نفسه في عام 2012.
على النقيض من يحيا، وهناك بعيدا في الجنوب، في العاصمة المالية، عبّر الرئيس المالي، إبراهيم أبوبكر كايتا، عن ارتياحه "لإيمان تنسيقية حركات الأزواد بالسلم واليد الممدودة". التقى الجميع في قاعة فسيحة مكيفة، حضر رعاة الاتفاق: الأمم المتحدة، الدول المجاورة وعرابة المفاوضات، الجزائر. تم التوقيع على اتفاق يهدف إلى طي فصل من فصول انعدام الأمن في منطقة الساحل.
في أحد المخيمات الكبرى الموريتانية المخصصة للاجئيين من المواطنين الماليين الهاربين من ويلات الحرب، يجهد المسؤولون المحليون لتنسيقية حركات الأزواد أنفسهم في إقناع النازحين بجدوى الاتفاق، يعقدون التجمعات في عراء الصحراء وتحت شمسها الحارقة، يلقون الخطب، يتلقون الأسئلة، يردون بما يعتقدون أنها أجوبة مقنعة. كهول ونسوة المخيم الذي يجمع أكثر من خمسين ألف لاجئ تعبوا من مصيرهم المجهول، وملوا انتظار مساعدات وصدقات تصل يوماً، وتنقطع أسابيع طويلة. أخذ منهم الجوع والعطش أعز ما يملكون، كرامتهم. تشرئب أعناقهم في زحام شديد لسماع صوت اتفاق قادم من بعيد، لعلهم يجدون في بعض بنوده سلواناً لهم، وطوق نجاة من تيه عاشوه سنوات طويلة.
الشباب منهم تُغريهم فتوة أجسادهم بحلم آخر، حلم دولة أو خيمة، لا يهم المسمى، فما يريدونه ليس أقل من الانفصال. لهذا الأمر، رفعوا السلاح، ولأجل هذا قاتلوا سنوات عديدة. محمدون آغ محمد، وهو مقاتل أزوادي، يقول لمراسل تلفزيوني جاء لتغطية حفل رعاه سياسيو الأزواد: في عامي 1993 و1994 سلّم أباؤنا الأسلحة، وأحرقوها في حفرة كبيرة. بعد عامين فقط، بدأوا يقتلون شعبنا، لن نعود إلى مثل تلك التجربة الآن. يساند مقاتلون آخرون قول رفيقهم، يضيف زميل له: كل من يدعي أن لديه ضمانات لإنهاء الحرب واهم.
لن تنتهي الحرب بجرة قلم إذا، فمسألة نزع السلاح القضية الأكثر عرضة لرفض المقاتلين. يستفز هذا الرفض الجناح السياسي من الحركة الذي يقول إنه ليس بالإمكان أحسن مما كان. رضوان آغ محمد علي، نائب رئيس المجلس الأعلى لوحدة الأزواد، يعتقد أن هذا الاتفاق هو كل ما استطاعوا الحصول عليه في الوقت الراهن، باعتبار مدى استعداد المجتمع الدولي لقبول المطالب التي تقدموا بها. يمنح الاتفاق الجديد أهالي الشمال إمكانية إقامة مؤسسات مدنية، وتخصيص مزيد من التمثيل البرلماني، وإسناد دور إلى الحركات المسلحة في حفظ الأمن، إضافة إلى مزيد من التنمية في الإقليم.
في يناير/كانون الثاني 2014، باشرت الجزائر جولات من المفاوضات التمهيدية لتقريب الرؤى بين حركات الأزواد والحكومة المركزية في مالي، وتم التوقيع على اتفاق السلم والمصالحة في 15 مايو/أيار الماضي من الحكومة والحركات السياسية العسكرية وفريق الوساطة الدولية بقيادة الجزائر، وتحفظت عنه الحركة الوطنية لتحرير الأزواد. واصلت الجزائر والمجموعة الدولية جهودها لرأب الصدع بين المتخاصمين، وتوصلت، أخيراً إلى اتفاق يحقق بعض المطالب.
اختلفت مقاربات علاج الأزمة بين طرف وآخر، فبينما حركت فرنسا قوافل جيوشها وطائراتها لقمع التمرد في شمال مالي لإنقاذ باماكو من ورطتها. ولتأمين عمليات استغلال احتياطيات اليورانيوم في كل من مالي والنيجر. تململت الجزائر، الجارة الشمالية، من المعارك التي جرت قرب حدودها، تخوفت من انتقال العدوى إليها، وهي التي اكتوت بنيران وصلت إلى عمق صحرائها. في 2012 تسللت مجموعة مسلحة إلى منطقة عين صالح، وسيطرت على قاعدة تيقنتورين النفطية وقتلت أكثر من 30 رعية أجنبية، كانت تعمل في الحقول البترولية. صدمة تحولت إلى كابوس دولي، حركت سواكن الجزائر التي انتبهت إلى أزمة لا تبتعد كثيراً عن أراضيها، وإلى أن شرارة لهيبها قد تشعل ناراً يصعب إطفاؤها، إن لم تسارع إلى التدخل السياسي على الأقل. فالجزائر تتبنى عدم التدخل العسكري خارج حدودها عقيدة منذ الاستقلال، لم تشذ عنها إلا في حرب يونيو/حزيران 1967 وحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 في دعم الجيوش العربية ضد إسرائيل.
سبق للجزائر قيادة مشاورات سياسية بين الأطراف في شمال مالي، أنتجت اتفاقيتين عامي 1992و2006 . ولكن حكومة باماكو لم تف بجميع بنودها، لا في الجانب السياسي، بمنح مزيد من التمثيل النيابي الوطني لإقليم الأزواد، ولا في الجانب الاقتصادي الذي يمثل الحجرة الكأداء في وجه التنمية في المنطقة التي تعاني من فقر مُدقع وتخلف تُجسده الأخاديد التي تعلو وجوه الناس في الإقليم، وأجسادهم المتهالكة، والثياب الرثة التي يلبسونها، ومأواهم الذي لا يحمل من الخيمة إلا الاسم.
في الاتفاق الموقع في 20 يونيو/حزيران 2015، يأخذ الشق الاقتصادي نصيب الأسد، فغياب التنمية هي رأس الغول الذي بات يقوض الاستقرار في المنطقة. التزمت الجزائر بمساعدات مالية واقتصادية، قد لا تكون كافية لحل جميع المشكلات المادية في الإقليم، لكنها ضرورية للحفاظ على الاستقرار، فالمنطقة تحتاج إلى دعم متواصل، يجب أن يُصبح سياسة دائمة، تنتهجها الحكومة الجزائرية لتحقيق تنمية اقتصادية لسكان الأزواد، حفاظا على أمنها في ظل تهديدٍ ما زالت تشكله جماعتان مسلحتان، هما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والفرع المحلي من تنظيم الدولة الإسلامية، المسمى جند الخلافة. وعلى الرغم من أن الجزائر هي البلد الوحيد في المنطقة الذي يمتلك القدرة على مراقبة حدوده بفعالية، فإن طول هذه الحدود، والذي يتجاوز 6000 آلاف كيلومتر، وامتدادها عبر الأراضي الصحراوية مع ليبيا ومالي والنيجر وموريتانيا يتطلب مجهودات أكثر من مجرد الاتكال على الفاعلية العسكرية، فالتنمية المحلية والالتفات إلى ترقية الأهالي وضمان ولائهم أهم من كل الحشود العسكرية، خصوصاً في ظل معلومات عن وصول عملاء من الموساد الإسرائيلي إلى منطقة كيدال في شمال مالي، لإنجاز دراسة ميدانية تشكل خارطة للمنظومة الاستخباراتية، للتحرك في ثلاث دول في المنطقة، يتوزع السكان الطوارق بين جغرافيتها، بغرض دعم بعض الساعين للانفصال والرافضين أي حكم ذاتي.
كما أن من مصلحة الجزائر الإبقاء على اليقظة على طول حدودها، لتفادي اعتداءات انتقامية، خصوصاً بعد تركيز عملياتها في الجنوب على كسر شبكات التهريب التي يديرها مختار بلمختار، والذي يتزعم تحالفاً للمقاتلين الإسلاميين، يتعامل في تهريب البضائع، والذي استطاع، أخيراً، وبعد نفي مقتله في جنوب أجدابيا الليبية، إنشاء مجلس شورى للجماعات الجهادية الموالية لتنظيم القاعدة الدولي، يضم ممثلي فروع تنظيم القاعدة في ليبيا والجزائر وشمال مالي.
ما يضفي تفاؤلاً حذراً على نجاح اتفاق باماكو مع الحركات الأزوادية الغطاء الدولي الذي وفر له، فالاتفاق يُعتبر محطة في طريق إعادة ترتيب خارطة المنطقة، وفقا للمصالح الاستراتيجية الأميركية والفرنسية، من خلال السعي إلى إعطاء مزيد من الصلاحيات للحركات الأزوادية، تضمن به القوى العظمى استقرار مالي، وضمان تدفق اليورانيوم، والقيام بعمليات منسقة لمحاربة تنظيم القاعدة وتنظيم بوكو حرام، والضغط على الجزائر للانخراط في هذا المسعى حتى خارج حدودها، وذلك بضمان استقرارها الداخلي، وتجنيب نفسها مآلات التغيير التي طرأت على المنطقة، بعد ثورات الربيع العربي. كما يندرج هذا المسعى في دفع الأطراف المتنازعة في ليبيا إلى شكل ترتيب يشمل إقامة نظام حكم غير معادٍ لواشنطن وحلفائها الأوروبيين.