ما بعد جريمة فرنسا:اليمين المتطرف ينتعش والمسلمون يخشون الانتقام

09 يناير 2015
صدمة وقلق في الشارع الفرنسي (كريستي سبارو/getty)
+ الخط -
اعتاد الفرنسيون أن يراقبوا عن بعد ما يحصل في نيويورك ومدريد ولندن، ولم يتوقعوا أن يضرب الإرهاب عقر دارهم. لم يخمّنوا أن يقتحم شخصان مقرّ صحيفة، لا يُستبعد أن تكون هدفاً، وأن يُحرق مقرّها السابق، في ظلّ حرّاسها، وفي وضح النهار، وأن يتم تصفية أفرادها في غضون عشر دقائق، قبل أن ينتقل المهاجمان إلى الشارع لاستعراض القوة، والإجهاز على شرطي يسترحم قاتليه، ثم مغادرة المكان والاشتباك مع عناصر شرطة آخرين في ثلاثة أمكنة، قبل أن يغيبا عن الأنظار.
 
ولم تهدأ تداعيات جريمة "شارلي إيبدو" في يوم وقوعها، بل امتدت طيلة يوم أمس، الذي كان حافلاً بالاعتداءات، بحيث وقعت سلسلة من الهجمات والحوادث الأمنية أسفرت عن مقتل شرطية وإصابة موظف بلدية بجروح خطيرة، بعدما فتح مسلّح النيران باتجاه الضحايا قبل أن يلوذ بالفرار. تزامن ذلك مع انفجار وقع في مطعم قرب مسجد في مدينة فيلفرانش سور سون جنوب شرق البلاد، وإلقاء 4 قنابل يدوية تدريبية على مسجد في مدينة لو مان بدون وقوع ضحايا.


وإن كان الفرنسيون قد صُدموا بالهجوم على الصحيفة، غير أنّه كان يُفترض بالحكومة، التي تشارك في الحرب الجارية على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أن تتوقع عمليات إرهابية، وهو ما اعترف به الرئيس فرانسوا هولاند أول من أمس، عبر إعلانه إفشال العديد من هذه العمليات. وفي الهجوم على الصحيفة، يظهر من خلال المعطيات الأولية الكثير من الخلل والتقصير الذي ارتكبته الشرطة الفرنسية في معالجة التهديدات ودرجتها؛ فعلى الرغم من معرفتها بدينامية عمل الإرهابيين، ومن التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية في أوروبا، خصوصاً مع الدول التي تعرضت في السابق لعمليات إرهاب دموي، كإسبانيا، فإن الفرنسيين فشلوا في ضبط كل الخلايا الإرهابية النائمة في ضواحي المدن الفرنسية التي تعمل بصفة مستقلة عن بعضها البعض.

وحين اقتربت الشرطة الفرنسية من معرفة مرتكبي مجزرة الصحافة، وهما سعيد وشريف كواشي؛ فرنسيان من أصول جزائرية، اكتشفت، بمرارة، كيف تم إيقافهما عام 2005 في إطار تفكيك شبكة كانت ضالعة في تجنيد متطوّعين شباب وإرسالهم إلى العراق. وتعترف بأنّ المجموعة التي كانا ينشطان فيها، تتبع داعية اسمه فريد بن يطّو، وقد غادرت إلى العراق، ولم يعد منها أحد سالماً. كما تعترف بأن التدخل الأميركي في العراق وفضائح سجن أبو غريب، سببت للأخوين كواشي، ولآخرين صدمات كبيرة، فقررا بعد خروجهما من السجن أن ينتقلا إلى العمل المسلح.


وتثبت الطريقة التي نفذ بها المهاجمان عمليتهما أنها تختلف عن طريقة محمد ميرا، الذي كان يريد أن يقتل كل من يصادفه؛ فالأخَوَان كواشي، وضعا خطّة محكمة، يبدو أنها استغرقت زمناً طويلاً، تطلبت معرفة بالمقرّ الجديد للصحيفة، بعد احتراق السابق، وتوقيت الاجتماع الأسبوعي وضمان حضور مدير التحرير "شارب"، نفسه، إذ كانا يعرفان الهدف بشكل دقيق. وفي النهاية أعلنا عن انتهاء المهمة بجملتي "لقد انتقمنا للنبي محمد. وقتلنا شارلي إيبدو".

تبين الطريقة التي نفذا بها الهجوم أنهما لم يكونا ينويان تنفيذ عملية انتحارية، بل العودة إلى قواعدهما سالمَيْن، وهو ما يجعل عمليتهما تختلف عن العمليات الانتحارية التي تقوم بها "القاعدة" و"داعش"، وغيرهما من الانغماسيين، حتى وإن أصرّ أحد الشهود على أنهما حمّلاه رسالة مفادُها أن تنظيم "القاعدة" مَنْ نفّذ الهجوم.
 
وحدة وطنية
لقد أثبت الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قدرة عالية على ضبط الأمور، وإدارة الأزمة داعياً منذ اللحظات الأولى لما بعد المجزرة إلى الوحدة الوطنية. وأشار هولاند الى أنّ الردّ يجب أن يكون جماعياً، لأن الأمّة الفرنسية كلها أصيبت في مقتل، ولأن استعادة القوة والمبادرة هي من مهمة الجميع، حُكماً ومعارضة. وفي الواقع، فإن التحدي الذي واجهه هولاند غير مسبوق، ولهذا حظي ردّهُ بموافقة الجميع، باستثناء "الجبهة الوطنية" المتطرفة.
ودفع الحدث إلى التعالي على الخلافات، وإظهار وحدة وطنية عالية. ولبى المسؤولون السياسيون، ورؤساء الأحزاب نداء هولاند، حين قال إن "كياننا مهدد، وكذلك الأمر بالنسبة لقيم فرنسا".

ودخل نيكولا ساركوزي إلى قصر الإليزيه للمرة الأولى بعدما غادره في مايو/أيار 2012، بحيث صافح هولاند بحرارة أمام الكاميرات، ودعا إلى رفض "الخلط والتطرف، والتنسيق معاً وإظهار الفرنسيين جبهة موحدة أمام الإرهاب والإجرام والمجرمين. هذا واجب".

تنكيس العلم الوطني، ابتداء من الساعات التي أعقبت الجريمة الإرهابية، ثم دقيقة الصمت في عموم التراب الوطني، والحداد ثلاثة أيام، واستقبال كل القوى السياسية الفرنسية لوضعها في صورة الحدث، وتقديم الأجوبة من قبل الحكومة المستنفرة، دلالات على حجم الكارثة، وهو ما عبرت عنه أيضاً التظاهرات العفوية والصامتة في كل ساحات فرنسا. فيما يرتقب أن تشهد باريس تظاهرة وطنية يوم الأحد، يشارك فيها الجميع ومن ضمنهم مسلمو فرنسا.

مسلمو فرنسا متضامنون.. وخائفون

وفي ظلّ تنامي الإسلاموفوبيا، اختار المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية أن يكون أول من يدين الهجوم على صحيفة "شارلي إيبدو"، رغم الخلاف الطويل بين الطرفين، والذي وصل إلى المحاكم. وأبى مدير مسجد باريس الكبير ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الشيخ دليل بوبكور، إلا أن يزور مقر الصحيفة ويعلن من هناك عن تضامنه مع ضحايا المجزرة وبراءة الإسلام من أي قتل وإرهاب.

كذلك عبرت جميع الجمعيات والمنظمات الإسلامية، بما فيها الأكثر انتقاداً لـ"شارلي إيبدو"، عن تضامنها مع الضحايا، وأدانت أي لجوء للقوة والإرهاب. وقال بيان لحزب "أهالي الجمهورية" "يقدم الحزب التعازي للضحايا ويدين بشكل صارم ونهائي المجزرة البشعة. ويرى أنها اعتداء فظيع يندرج في سياق إسلاموفوبي بالغ الشدة، وأنه لا شيء يبرر، بأية حال، أهداف الاعتداء ومُوجّهيه ومنفذيه. كما أن الحزب يدين القوى التي سارعت، على الفور، إلى استثمار هذه المأساة من أجل ممارسة القمع والعنف ضد المسلمين".

وإذا كان مسلمو فرنسا وعربها يؤيدون بقوة مواقف الرئيس والحكومة الفرنسيين، ويدينان هذه العملية الإرهابية، فإن الكثير منهم يخشى من تصاعد العنصرية والإسلاموفوبيا. وفي هذا السياق، جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي ونظيره السابق ساركوزي بخصوص رفض أي خلط بين التطرف الإسلاموي الأقلوي، وبين الإسلام المتسامح الذي يمارسه عموم مسلمي فرنسا.

وفي هذا الإطار، تساءلت صحيفة ليبراسيون، في عددها أمس، ما إن كان قد "أصبح الإسلام يشكل عُصاباً وطنيا؟"، وربطته بظهور المطالب "الهوياتية"، لدى شريحة متزايدة من الفرنسيين ("الانتحار الفرنسي" لإيريك زمور/ "الهوية الشقية" لفينكلكروت)، تغذّيها تصريحات اليمين الساركوزي والمتطرف. ويبدو أنّ فرنسا، كما تكتب الصحيفة، تجد نفسها أمام وضع تاريخي استثنائي، يتمثل في انغراس دين جديد على أراضيها، ومن وجهة التاريخ لم يحدث هذا الأمر إلا مرة واحدة حين سقطت الإمبراطورية الرومانية، وتم إرساء المسيحية.
المساهمون