05 يونيو 2017
ما بعد داعش في العراق
يتراجع تنظيم داعش عسكرياً منذ مدة، في العراق بالذات، وهو محاصرٌ حالياً في محافظة نينوى، وبعد أن كان التنظيم مالئ الدنيا وشاغل الناس في منطقتنا العربية والعالم، بفعل تمدّده على رقعة واسعة من الأراضي السورية والعراقية، واتخاذها مركزاً له، بات التنظيم يتراجع وينكمش، لأن الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة أصبحت ترى التخلص منه أولويةً، على الرغم من تناقضاتها، ولم يعد حجم التناقض بين هذه الأطراف أكبر من استهداف التنظيم، وبات التناقض محصوراً في مكاسب كل طرفٍ من هزيمة التنظيم، وتراجعت أهميته بوصفه ورقة ضغطٍ لتحصيل مكاسب سياسية وعسكرية. وتتلخص المسألة كلها الآن في وراثة ما يسيطر عليه حالياً، وتجيير الانتصار عليه لمصلحة من في الإقليم. وهنا، يتمظهر الصراع بين الأطراف الإقليمية، من الرقة إلى الموصل، فيما التنظيم يتوسّل العمليات الانتحارية في بغداد ومدنٍ عراقية أخرى، ليحافظ على بقائه.
لكن غياب سيطرة تنظيم داعش على أراضٍ عراقية لا يعني نهايته بالكامل، ليس لأنه سيعتمد نهج التفجيرات الانتحارية، لإزعاج خصومه وإرباكهم وحسب، بل لأن من يرث "داعش" في مناطق سيطرته لا يبدو أنه يستوعب، حتى الآن، حجم الخطايا التي أدت إلى صعود "داعش" بهذا الشكل في بعض المناطق العراقية. لا يمكن إغفال العامل الخارجي، من الاحتلال الأميركي في العراق، إلى الصراع الإقليمي وتمظهراته في سورية خلال السنوات الأخيرة، في تفسير صعود هذا التنظيم، وانتعاشه وتمدّده، لكن المسألة تتعلق، أيضاً، بعوامل أخرى، أهمها غياب الهوية الوطنية في العراق، وانهيار الدولة، وغياب رجالات الدولة ومؤسساتها، لمصلحة زعامات الطوائف، والشرخ الذي تسبب به الاحتلال الأميركي، على مستوى المجتمع العراقي، وعمقّه من أدار الحكومة العراقية طوال السنوات الماضية.
الأطراف العراقية جميعها مدعوةٌ إلى مراجعة جادة، إذا كان مصير العراق ووحدة مجتمعه وأراضيه تعنيهم بالدرجة الأولى. فشلت العملية السياسية في أن تؤسّس لمظلةٍ وطنيةٍ، تضم جميع الأطراف، فقد تأسّست على الاستسلام لتقسيم أميركيٍّ غريب، هو خليط من الطائفي والإثني/ القومي، فالعرب هم شيعة وسنة، ويجاورهم الكرد الذين لا يراهم هذا التقسيم شيعةً وسنة. قبلت الأحزاب الطائفية بهذا التقسيم، لأنه يناسبها، فحزب الدعوة والمجلس الأعلى يتعطّشان لزعامة الطائفة التي يُفترض بها أن تهيمن على الحكم، نظراً إلى تفوقها العددي، فيما الحزب الإسلامي (الفرع العراقي لجماعة الإخوان المسلمين) يود قيادة السنة في إطار العملية السياسية، وعدم تركها لمنافسيه الشيعة، وتحصيل ما يمكن تحصيله للطائفة.
لم تكن المحاصصة الطائفية/ الإثنية قائمةً على مبدأ التوافق، على طريقة المحاصصة اللبنانية، بل على مبدأ الغلبة الطائفية، القائمة على أساس مظلوميةٍ مدّعاة، وسردية تكذّبها حقائق التاريخ الحديث للعراق. أعادت القوى الطائفية الشيعية والسنية قراءة التاريخ السياسي العراقي الحديث، وبالذات نظام الرئيس الراحل صدام حسين، ضمن سرديّتها الطائفية، ليكون الشيطان الذي قمع الشيعة وأقصاهم، أو البطل الذي وقف سداً منيعاً أمام أطماعهم. وعلى هذا الأساس، وثبت الأحزاب الطائفية الشيعية إلى الحكم، لتنهي مظلومية الشيعة، وتعوّضهم عن غيابهم عن الحكم عقوداً مضت، فيما وقفت القوى السنية موقفاً دفاعياً، بعد خسارتها "النفوذ التاريخي"، لتصنع مظلوميتها الحديثة.
من السهل دحض السردية الطائفية التي اتخذتها الأحزاب الطائفية الشيعية، رافعةً لوصولها إلى الحكم، كما أنه لا يوجد حق تاريخي لجماعةٍ أهلية لتحكم بلداً، لأن لها الغلبة العددية، إذ إن الديمقراطية منافسة بين أحزاب تمثل المواطنين جميعاً، وحين تتحوّل إلى معركةٍ بين واجهاتٍ سياسية لطوائف، تصبح حرباً باردة، سرعان ما تتحول حرباً ساخنة في الشوارع، وتحول دون قيام دولة مؤسساتٍ قوية، وقادرة على تحمل الاختلافات السياسية داخلها. لكن هذا لا يعني شرعنة استخدام السلاح، في ظل وجود ما يمكن أن نسميها حياة سياسية مفتوحة، ومن برّر ويبرّر وجود "داعش" وتمددها، بغطاء مظلومية سنية، أو تحت عنوان ثورة العشائر المزعومة، هو يؤكد فقط عدم إيمانه بالنهج السلمي في التغيير، في ظل وجود فرصةٍ لهذا التغيير السلمي، واستعداده لإحراق البلاد والعباد انتصاراً لطائفيته.
إنقاذ العراق يمر عبر نسف الأسس التي قامت عليها عملية المحاصصة الطائفية. وهذا لا يمكن أن يتم من دون انبثاق تكتل سياسي وطني، يعبر الطوائف، ويُخرِج الجماهير من الغرائزية الطائفية، والانسياق وراء خطاب أحزابٍ فاشلةٍ في كل شيء سوى في تعميق الانقسامات المذهبية. لكن نشوء كتلة وطنية يتطلب عملاً مضنياً، وخطاباً يؤكد على رفض التقسيمات الطائفية، وكل من يدعمها، ويضم داخله من السنة والشيعة من لا يؤمنون بأن أتباع المذاهب هم جماعاتٌ سياسيةٌ لها حقوق وحصص في أجهزة الدولة ومؤسساتها وثرواتها. وعلى الرغم من أن الانقسام الطائفي يستقطب جماهير ونخباً كثيرة، إلا أن النتائج المروّعة لهذا الاستقطاب الطائفي يمكن أن تكون فرصةً لقيام كتلة وطنية، تقود المجتمع إلى طريقٍ آخر، لا يفرز هذه الكوارث.
تجربة مواجهة تنظيم داعش فرصة ليبنى عليها نهج الوحدة الوطنية الذي يرفض اقتطاع شبرٍ من أرض العراق، لصالح تنظيم داعش، أو الاحتلال الأميركي، بل إن مواجهة التنظيم فرصة لقيام نهجٍ وحدوي عربي، يسعى إلى وحدة العراق وسورية، ومنع التقسيم، لكن هذا يتطلب قيام تكتلٍ جديد، لا يكون على شاكلة القوى الطائفية المهيمنة على العملية السياسية في العراق.
لكن غياب سيطرة تنظيم داعش على أراضٍ عراقية لا يعني نهايته بالكامل، ليس لأنه سيعتمد نهج التفجيرات الانتحارية، لإزعاج خصومه وإرباكهم وحسب، بل لأن من يرث "داعش" في مناطق سيطرته لا يبدو أنه يستوعب، حتى الآن، حجم الخطايا التي أدت إلى صعود "داعش" بهذا الشكل في بعض المناطق العراقية. لا يمكن إغفال العامل الخارجي، من الاحتلال الأميركي في العراق، إلى الصراع الإقليمي وتمظهراته في سورية خلال السنوات الأخيرة، في تفسير صعود هذا التنظيم، وانتعاشه وتمدّده، لكن المسألة تتعلق، أيضاً، بعوامل أخرى، أهمها غياب الهوية الوطنية في العراق، وانهيار الدولة، وغياب رجالات الدولة ومؤسساتها، لمصلحة زعامات الطوائف، والشرخ الذي تسبب به الاحتلال الأميركي، على مستوى المجتمع العراقي، وعمقّه من أدار الحكومة العراقية طوال السنوات الماضية.
الأطراف العراقية جميعها مدعوةٌ إلى مراجعة جادة، إذا كان مصير العراق ووحدة مجتمعه وأراضيه تعنيهم بالدرجة الأولى. فشلت العملية السياسية في أن تؤسّس لمظلةٍ وطنيةٍ، تضم جميع الأطراف، فقد تأسّست على الاستسلام لتقسيم أميركيٍّ غريب، هو خليط من الطائفي والإثني/ القومي، فالعرب هم شيعة وسنة، ويجاورهم الكرد الذين لا يراهم هذا التقسيم شيعةً وسنة. قبلت الأحزاب الطائفية بهذا التقسيم، لأنه يناسبها، فحزب الدعوة والمجلس الأعلى يتعطّشان لزعامة الطائفة التي يُفترض بها أن تهيمن على الحكم، نظراً إلى تفوقها العددي، فيما الحزب الإسلامي (الفرع العراقي لجماعة الإخوان المسلمين) يود قيادة السنة في إطار العملية السياسية، وعدم تركها لمنافسيه الشيعة، وتحصيل ما يمكن تحصيله للطائفة.
لم تكن المحاصصة الطائفية/ الإثنية قائمةً على مبدأ التوافق، على طريقة المحاصصة اللبنانية، بل على مبدأ الغلبة الطائفية، القائمة على أساس مظلوميةٍ مدّعاة، وسردية تكذّبها حقائق التاريخ الحديث للعراق. أعادت القوى الطائفية الشيعية والسنية قراءة التاريخ السياسي العراقي الحديث، وبالذات نظام الرئيس الراحل صدام حسين، ضمن سرديّتها الطائفية، ليكون الشيطان الذي قمع الشيعة وأقصاهم، أو البطل الذي وقف سداً منيعاً أمام أطماعهم. وعلى هذا الأساس، وثبت الأحزاب الطائفية الشيعية إلى الحكم، لتنهي مظلومية الشيعة، وتعوّضهم عن غيابهم عن الحكم عقوداً مضت، فيما وقفت القوى السنية موقفاً دفاعياً، بعد خسارتها "النفوذ التاريخي"، لتصنع مظلوميتها الحديثة.
من السهل دحض السردية الطائفية التي اتخذتها الأحزاب الطائفية الشيعية، رافعةً لوصولها إلى الحكم، كما أنه لا يوجد حق تاريخي لجماعةٍ أهلية لتحكم بلداً، لأن لها الغلبة العددية، إذ إن الديمقراطية منافسة بين أحزاب تمثل المواطنين جميعاً، وحين تتحوّل إلى معركةٍ بين واجهاتٍ سياسية لطوائف، تصبح حرباً باردة، سرعان ما تتحول حرباً ساخنة في الشوارع، وتحول دون قيام دولة مؤسساتٍ قوية، وقادرة على تحمل الاختلافات السياسية داخلها. لكن هذا لا يعني شرعنة استخدام السلاح، في ظل وجود ما يمكن أن نسميها حياة سياسية مفتوحة، ومن برّر ويبرّر وجود "داعش" وتمددها، بغطاء مظلومية سنية، أو تحت عنوان ثورة العشائر المزعومة، هو يؤكد فقط عدم إيمانه بالنهج السلمي في التغيير، في ظل وجود فرصةٍ لهذا التغيير السلمي، واستعداده لإحراق البلاد والعباد انتصاراً لطائفيته.
إنقاذ العراق يمر عبر نسف الأسس التي قامت عليها عملية المحاصصة الطائفية. وهذا لا يمكن أن يتم من دون انبثاق تكتل سياسي وطني، يعبر الطوائف، ويُخرِج الجماهير من الغرائزية الطائفية، والانسياق وراء خطاب أحزابٍ فاشلةٍ في كل شيء سوى في تعميق الانقسامات المذهبية. لكن نشوء كتلة وطنية يتطلب عملاً مضنياً، وخطاباً يؤكد على رفض التقسيمات الطائفية، وكل من يدعمها، ويضم داخله من السنة والشيعة من لا يؤمنون بأن أتباع المذاهب هم جماعاتٌ سياسيةٌ لها حقوق وحصص في أجهزة الدولة ومؤسساتها وثرواتها. وعلى الرغم من أن الانقسام الطائفي يستقطب جماهير ونخباً كثيرة، إلا أن النتائج المروّعة لهذا الاستقطاب الطائفي يمكن أن تكون فرصةً لقيام كتلة وطنية، تقود المجتمع إلى طريقٍ آخر، لا يفرز هذه الكوارث.
تجربة مواجهة تنظيم داعش فرصة ليبنى عليها نهج الوحدة الوطنية الذي يرفض اقتطاع شبرٍ من أرض العراق، لصالح تنظيم داعش، أو الاحتلال الأميركي، بل إن مواجهة التنظيم فرصة لقيام نهجٍ وحدوي عربي، يسعى إلى وحدة العراق وسورية، ومنع التقسيم، لكن هذا يتطلب قيام تكتلٍ جديد، لا يكون على شاكلة القوى الطائفية المهيمنة على العملية السياسية في العراق.