ما سرّ "السخرية" من حماس وصواريخها؟
سؤال كبير بحجم الغرابة، التي تولدها المواقف المخزية، التي أبداها كتاب وإعلاميون، انتقدوا بشكل لاذع، وربما غير مسبوق، حركة حماس تحديداً، وصواريخها، وخصّوا الحركة بأقذع العبارات والتهم، مع أنها ليست وحدها مَنْ يُطلق الصواريخ، فثمة فصائل أخرى تقوم بذلك، ومنها من يتبع حركة "فتح" والجبهة الشعبية، وبعض تشكيلات السلفية الجهادية، إضافة، طبعاً، إلى حركة الجهاد الإسلامي. لكن السهام تركزت نحو حركة حماس، باعتبارها ذهبت بشعب فلسطين إلى الهاوية، وعرّضت مصالحه العليا للخطر. وذهب آخرون إلى أبعد من هذا، فأحد إعلاميي مصر، مثلاَ، قال إن حماس تستهدف مصر في "عدوانها" على إسرائيل. وقال مسؤول فلسطيني في سلطة رام الله إن محمود عباس وسلطته هي المستهدفة من الحرب، التي تشنها حماس. كتاب وإعلاميون خليجيون أسرفوا في شتم حماس والمقاومة، ودعوا إسرائيل إلى التنكيل بها. ووصلت هذه اللوثة إلى الشارع في مصر تحديدا، وإلى نشطاء في شبكات التواصل الاجتماعي، ولم تردع صور ضحايا غزة هؤلاء عن استعمال عبارات في منتهى القسوة، وغير مألوفة في اللغة العربية، ضد ظاهرة نبيلة كظاهرة المقاومة.
تُرى، ما سر هذه الهجمة، التي تبدو غريبة على المشهد العربي؟ وكيف يجرؤ عربي قح على الانحياز إلى صف "العدو" الصهيوني، جهاراً نهاراً، ويتنكر لحركة مقاومة، ويتهمها بما ليس فيها من تهم الخيانة والخذلان؟
الحقيقة أن الأمر متعلق، على الأغلب، بالموقف السياسي والعقائدي من حركة حماس تحديداً، والتي هي في النهاية من تشكيلات جماعة الإخوان المسلمين، وأي "نجاح" تحققه، على أي صعيد، يعد نجاحاً لـ "الإخوان"، وإنقاذاً لمشروعهم، الذي أصيب بانتكاساتٍ موجعة في غير بلد عربي، وهو ما لا يريده هؤلاء بالقطع، بعد الأموال التي لا تأكلها النيران، التي بذلت لإسكات صوتهم في مصر، وخنق مشروعهم وإفشاله، وبعد كل الجهود التي تضافرت، في بذلها، محاور ودول وإمكانات كونية هائلة، لتأتي حماس، وفي وقت "غير مناسب" أبداً، لإحياء هذا المشروع، وبعث الحياة فيه، ولتحبط كل ما تم بذله للإجهاز على "الإخوان" ومشروعهم السياسي والنهضوي!
لقد تجاهل كل من هاجم حماس جملة من الحقائق الكبرى، التي ربما تغير مسار الصراع العربي الصهيوني، وأعمته أحقاده على جماعة الإخوان عن رؤية تغيرات جوهرية كشفها العدوان الصهيوني الغاشم على غزة، المحاصرة جواً وبحراً وسماء، من إسرائيل ومن مصر، وتبين، من بعد، أن هذه البقعة "المحاصرة" هي البقعة الوحيدة الحرة، التي تستطيع اتخاذ قرار بضرب إسرائيل، حتى أن محللين إسرائيليين قالوا إن حصار مصر لغزة،
وتدميرها الأنفاق، أضر بإسرائيل أكثر مما نفعها، لأن هذا الحصار الخانق دفع حماس، والمقاومة في غزة، إلى تطوير أسلحتهم ذاتياً، ومن دون الاعتماد على أحد. وراكم لديهم خبرات جديدة، ربما لن تقف عند حدود في المستقبل، مما يعني أن الحصار التام ولّد لدى المحاصرين الرغبة في استزراع تكنولوجيا خاصة بهم، تمثلت في إنتاج صواريخ برؤوس حربية متطورة، وقادرة على الوصول إلى معظم أنحاء فلسطين التاريخية، ناهيك عن تصنيع طائراتٍ من دون طيار، وإرسالها إلى الأجواء الإسرائيلية، علما بأن هذه الصناعة تفخر بها إسرائيل، وتعتبر "فارستها" الوحيدة، إضافة إلى قدرة مهندسي القسام "وقراصنتهم" الإلكترونيين على اختراق شبكات التلفزة الإسرائيلية، وبث رسائل تهديد للجمهور باللغة العبرية على شاشاتها، ناهيك عن رسائل نصية يرسلونها إلى هواتف الإسرائيليين، فضلا عن إدخال ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ، وتشويش حياتهم اليومية، وضرب الاقتصاد والسياحة.
لقد تحولت حماس فجأة، وعلى الرغم من أنها ضحية، ويفترض أنها تناجز عدو الأمة العربية الأول تاريخيا (كما كانت تصدح الحناجر)، إلى "عدو" بديل، وتوجهت السهام إليها، ظاهرياً، عبر تلك الأصوات، التي طفت على السطح، أما باطنياً، فقد اتخذت المسألة منحى آخر، ستكشف عنه الأيام، وكيف تحركت قوى عربية و"سنية" لإجهاض دور حماس، وقتل المقاومة، والانتصار لإسرائيل، في سبيل الإجهاز على مشروع الإخوان المسلمين، وعدم تمكين حركة كـ "حماس" من تسجيل أي انتصار، حتى ولو كان على إسرائيل، فقط لأنها تسهم في بث الروح في مشروع الإخوان المسلمين السياسي، المطلوب رأسه مصرياً وخليجياً وإسرائيليا، ولعل "المبادرة" المصرية للتهدئة بين "غزة وإسرائيل" هي التعبير الأوضح عن ذلك الجهد العربي الباطني، لوقف "نمو" حماس، وتحجيمها، وتحويل نصرها إلى هزيمة، وإنقاذ الطرف المعتدي، وهذا ما دفع حماس إلى المسارعة إلى "ركلها" ورفضها فوراً، لأنها تتجاهلها بالكامل كفصيل، وتعيد الأمور إلى تفاهمات التهدئة الأخيرة التي أبرمها الرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، ومن دون أية تغييرات على الحصار الراهن، وتساوي بين المعتدي والمُعتدى عليه!
ومهما يكن مآل العدوان على غزة، فالحقيقة الكبرى، التي لا مراء فيها، أن حماس أعادت الصراع مع الصهيونية إلى جذره التاريخي، فهي الوحيدة التي تذكر الأنظمة العربية بأن إسرائيل لم تزل عدواً، وليست حليفاً في مواجهة الربيع العربي، أو الإسلام السياسي، أو أية حركة نهوض شعبية، وهو أمر يحرج هذه الأنظمة، ويكشف زيفها، وخداعها شعوبها، على مدار عشرات السنين!