... وانطلق عام جديد. نطوي صفحة، وننصرف إلى ما سوف يكون.
مع أفول عام واستهلال آخر، نرى اهتمامنا كلّه وتركيزنا المطلق وقد انصبّا على المُقبل من الأيّام. ونُثقل العام الذي وفد بـأحلام وأمنيات وآمال، فيما نحمّل ذلك الذي انقضى خيباتنا وقنوطنا وكوابيسنا الأسوأ.
ونأمل في أن نتحرّر من ذلك الذي انقضى، كأنّ كلّ واحد منا قائل: "سيّدي الماضي، فلتسمح لي بالمضيّ قدماً".
التحرّر من الماضي شرطٌ لا بدّ منه لبناء مستقبل ما؟ سؤال يُطرح. يبدو مشروعاً ومبرّراً في حال كنّا نشعر بأنّنا متعَبون، وبأنّنا معوَّقون بما خبرناه من أزمات وخسارات وفقد. ويُطرح سؤال آخر. ماذا يعني "التحرّر من الماضي"؟ نجيب: نسيانه أو إهماله أو إغفاله أو إسقاطه من حساباتنا.
"بلا جدوى هي محاولة النسيان". هذا ما تؤكّده الطبيبة الفرنسيّة المتخصّصة في التحليل النفسيّ، ساره سترن. بالنسبة إليها، "ما يهمّ هو التمكّن من تحويل الذكرى، حتى تحتلّ موضعاً آخر في مُعاشنا وتطبعنا بصورة مغايرة. لا بدّ من الرضاء بما وقع وعدم مقاومته. ولعلّ الأفضل هو الخروج بشيء - أيّ شيء - منه".
الماضي يعرقلنا. ونشكو من عرقلته تلك. هو يعرقلنا من خلال القيمة التي ننسبها إليه والقدرة/ السلطة التي نعزوها إليه. هو إمّا يكون محرّكاً محفّزاً أو معوّقاً معطّلاً. هو إمّا ينكأ جراحنا أو يُبلسمها. هو إمّا يؤكّد حقيقة ما أثقلنا وحَكَمنا أو ينقضها. من هنا، نصيحة يقدّمها هؤلاء الذين يحاولون الغوص في النفس البشريّة. لا بدّ من فكّ الأحداث عن التأويلات التي أسقطناها عليها، والهدف إعادة النظر فيها.
الماضي.. ماضينا، يُسهم في بناء المستقبل.. مستقبلنا. يستحيل فكّ الارتباط بينهما. نحاول، لكنّ الأوّل يأبى أن يتركنا وشأننا. تاريخنا يطبعنا، بعسره ويسره. تاريخنا يشكّلنا، بأعبائه وبلِينه. نُهمل ماضينا، تاريخنا، فنقوّض دعائم مستقبلنا قبل أن نُرسيها. نتنكّر لذلك الماضي، لذلك التاريخ، ونعلّل الأمر بجراح كثيرة تركت ندوبها غائرة في روحنا.
جراحنا، جراح ماضينا، يُقال إنّها قد تحصّننا، فتسعفنا للصبر على جراح أخرى قد تصيبنا مستقبلاً. لا شكّ في أنّ جراحاً أخرى سوف تصيبنا مستقبلاً. لا شكّ في أنّ المستقبل - لا سيّما العام الذي وفد - لن يكون ورديّاً خالصاً مثلما نصرّ على تصويره، لا بل على توقّعه. لن يكون ورديّاً وإن أثقلناه بأحلام وأمنيات وآمال، لا بل فِعلنا هذا قد ينقلب خيبة. أمّا مولانا جلال الدين الرومي، فيقول: "لا تجزع من جرحك، وإلا كيف للنور أن يتسلّل إلى داخلك؟".