سلّطت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في النمسا، الضوء مجدداً على صعود أحزاب اليمين المتطرّف إلى واجهة الساحة السياسية الأوروبية، بل وإمكانية وصول بعضها إلى سدة الحكم، مع تراجع ملحوظ لأحزاب الوسط التقليدية، التي طالما تنافست على الحكم أو تداولته منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وسقوط الأحزاب النازية والفاشية في ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية.
في هذا السياق، يرى مراسل الشؤون الأوروبية في صحيفة "ذا غارديان"، جون هنلي، أن "الدول والحكومات الأوروبية من إسبانيا إلى ايرلندا، ومن سلوفاكيا إلى البرتغال، تواجه ببرلمانات منقسمة، وتحالفات مهزوزة، وحكومات ضعيفة، وسياسات عرجاء، وأزمات اقتصادية خانقة، وموجات من اللاجئين، ومخاوف من الإرهاب. ما دفع شرائح واسعة من الناخبين للتوجّه نحو أحزاب اليمين، المناهض لسياسات التقشف والهجرة، والعزوف عن تأييد أحزاب الوسط المحافظة أو اليسارية".
من جهته، يقول أستاذ "الشؤون الأوروبية والسياسة المقارنة" في جامعة لندن للاقتصاد، سايمون هكس، إن "ما نراه اليوم في أوروبا، هو تشظٍّ لأصوات الناخبين نحو أقصى اليمين وأقصى اليسار، وتراجع شعبية أحزاب يمين الوسط، ويسار الوسط، التقليدية من 40 في المائة إلى نحو 25 في المائة أو أقلّ، وهذا يحدث في كل أنحاء أوروبا، ويطرح إشكالية غير مسبوقة منذ عقود".
في غرب أوروبا ودول اسكندنافيا هناك صعود ملحوظ لأحزاب اليمين المناهضة للاتحاد الأوروبي، والرافضة للهجرة، مثل "الجبهة الوطنية" في فرنسا، وحزب "الحرية" النمساوي، وحزب "الشعب" الدنماركي، وحزب "البديل" في ألمانيا، وحزب "الاستقلال" في بريطانيا، وحزب غيرت فيلدرز "من أجل الحرية" في هولندا، وحزب "الخمسة نجوم" في إيطاليا. أما في وسط أوروبا وشرقها، فهناك صعود للأحزاب القومية التقليدية، مثل حزب "القانون والعدالة" وحزب "اليمين الجديد" في بولندا، و"حركة من أجل هنغاريا أفضل" (يوبيك)، وحزب "أتاكا" البلغاري.
وفي جنوب القارة الأوروبية، حيث ضربت الأزمة الاقتصادية عام 2008 اسبانيا والبرتغال واليونان، فقد بات ميل الناخبين نحو أحزاب أقصى اليسار، لأن ذاكرة شعوب هذه الدول مع الأحزاب الشمولية والدكتاتوريات القومية لا تزال حاضرة، وتخشى العودة الى أحضان اليمين المتطرف.
وسواء كان ميل الرأي العام الأوروبي نحو أحزاب أقصى اليمين في بعض الدول، أو أحزاب أقصى اليسار في دول أخرى، فالخاسر الأول من تحولات الناخبين هو أحزاب الوسط التقليدية، التي طالما سيطرت على الساحات السياسية منفردة أو عبر تحالفات. وإن الأحزاب التقليدية لم تعد قادرة على تحقيق أغلبية تُؤهلها للحكم منفردة، كما لم تعد "حكومات التحالف" بين أحزاب الوسط قادرة على الاستمرار لفترات طويلة.
وإن كانت قضايا الهجرة، والاندماج، والبطالة وسوق العمل، وتدنّي الدخل، والاتحاد الأوروبي، وفساد النخبة السياسية والاقتصادية، وأزمة اليورو، وأزمة اللاجئين، والإرهاب، تُشكّل العامل المشترك الذي دفع بالكثير من الأوروبيين إلى تبنّي أطروحات الأحزاب اليمينية الصاعدة، لا سيما الأحزاب التي رفعت شعارات مناهضة للهجرة، ومطالبة بالتحرر من قيود الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك مناهضة سياسات "الحدود المفتوحة"، و"التجارة الحرة"، و"العملة الموحدة"، فإن هناك أسباباً "وطنية" أو "محلية" أخرى دفعت بالرأي العام في بعض الدول الأوروبية إلى النزوع نحو "القومية".
من جهته، يرى حزب "البديل" الألماني، أن "ألمانيا باتت منقوصة السيادة في ظل تبعية للولايات المتحدة، وللاتحاد الأوروبي". وفي أوروبا الشرقية تشكو الأحزاب القومية اليمينية من هيمنة ألمانيا على باقي دول الاتحاد، بل إن باول كيكاز، النجم اليميني الصاعد في بولندا، يرى أن "الشركات الألمانية حلّت مكان الدبابات الألمانية".
في هذا الإطار، نجحت الأحزاب الشعبوية في استقطاب شرائح مجتمعية متباينة، من الشباب العاطل، غير المتعلم، المناهض للعولمة، الذي يرى أن المهاجرين من شرق أوروبا، أو من خارج الاتحاد الأوروبي، قد استولوا على فرص العمل التي كانت مُتاحة لهم. كما شكّلوا ضغطاً على الخدمات العامة، بما فيها الصحة والتعليم والإسكان، بينما تقلّصت مساعدات الدولة بسبب تبنّي حكومات الأحزاب الوسطية، لسياسات تقشف صارمة أضرّت بالطبقات الفقيرة أو المتوسطة الدخل.
فضلاً عن ذلك فإن الأجيال الأوروبية الشابة، تخلّصت من الصورة النمطية التي طبعت الأحزاب القومية، ولم يعد الشباب يرى حرجاً من الانضمام لأحزاب قومية، قد تُذكر بعض شعاراتها بالنازية أو الفاشية أو غيرهما من الحركات القومية، التي انتشرت في أوروبا في القرن الماضي.
وتنقل "وول ستريت جورنال" عن شابة متطوعة في حزب "الحرية" النمساوي، قولها إن "التاريخ النازي لم يعد دافعاً للانصراف عن تأييد الشباب للأحزاب اليمينية. نحن لم نعاصر تلك الحقبة، وقرأنا عنها في كتب التاريخ، لذلك نحن أكثر انفتاحاً على الأحزاب اليمينية، ونعلم أن الحقبة النازية كانت رهيبة، ولكننا نعمل أيضاً على عدم عودتها ثانية".
كما ساعدت عوامل كعجز الأحزاب التقليدية (أحزاب الوسط) عن تقديم خطاب مُقنع للرأي العام، وعدم القدرة على تقديم حلول ملموسة للمشاكل المتراكمة، أو الفشل في دحض أطروحات الأحزاب اليمينية، على تمدّد الأحزاب "الشعبوية" في أوروبا، بل إن الكثير من الأحزاب التقليدية بات أكثر ميلاً لتبنّي بعض ما تطرحه الأحزاب اليمينية الصاعدة، إما عن قناعة، أو خشية من خسارة المزيد من الأصوات.