في الاقتراع الأكثر غرابة وصدمة في التاريخ الأميركي الحديث، الذي شهد نسبة مشاركة قياسية تجاوزت الـ50 في المائة مع تصويت نحو 125 مليون أميركي من أصل 225 مليوناً يحق لهم التصويت، حصلت كلينتون على 59.4 مليون صوت، في مقابل 59.2 مليون صوت لترامب، حتى مساء أمس. تكرر مشهد منافسة الديمقراطي آل غور، والجمهوري جورج بوش الابن، في عام 2000، ففاز الأول شعبياً، والثاني على مستوى المندوبين في الولايات.
وحقق ترامب انتصاره في وقتٍ، لم تستطع فيه كلينتون أن تستنفر بالقدر المطلوب القاعدة التصويتية الديمقراطية، ولم تتمكن من التعبئة بشكل كافٍ لذوي البشرة السوداء وأصحاب الجذور اللاتينية والنساء المتعلمات وخصومها من داخل الحزب الديمقراطي، خصوصاً أنصار بيرني ساندرز، الذين لم يصوّت أكثر من 50 في المئة منهم لكلينتون، لتتغير هوية أميركا ووجهها، وتنتقل ولايات تاريخية كانت معروفة بميولها الديمقراطية لتصبح أميركا شبه حمراء (لون الحملة الجمهورية).
في الأيام الأخيرة من حملته الانتخابية، وخلال جولاته في ولاية ميشيغن، معقل الحركة العمالية الأميركية، التي لم تمنح أصواتها لمرشح جمهوري للرئاسة منذ عقود، وجّه ترامب انتقادات حادة لساندرز بسبب دعمه كلينتون، على الرغم من "المؤامرات" التي تعرّض لها من قبل قيادة الحزب الديمقراطي وكشفتها الرسائل الإلكترونية التي نشرها موقع "ويكيليكس". وذلك بعد تعرّض الحزب الديمقراطي لقرصنة إلكترونية، تتهم واشنطن الاستخبارات الروسية بالوقوف وراءها، من أجل التدخل في الشأن الانتخابي الأميركي، والتأثير بنتائج الانتخابات لصالح ترامب، صديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
واعتبر ترامب، خلال انتقاده ساندرز، أن "الأخير فقد مصداقيته وشرعية زعامته السياسية، لأنه تنازل عن مبادئه وعقد صلحاً مع كلينتون، رمز النظام الأميركي الفاسد ولوبيات الضغط المالي". وعرض ترامب على أنصار ساندرز الانضمام إليه "من أجل تجفيف مستنقعات الفساد في واشنطن وكنس الطبقة السياسية الأميركية التقليدية".
في تلك الفترة الحرجة من الحملة الانتخابية التي أثقلتها الفضائح والاتهامات بالتحرش الجنسي، اختار ترامب الرد على الهجوم الذي تعرض له، من تسريب صحيفة "نيويورك تايمز" وثيقة تهربه من دفع الضرائب، إلى نشر صحيفة "واشنطن بوست" شريط إساءاته للنساء، عبر اعتماد استراتيجية اقتحام معاقل الديمقراطيين وقلاعهم الانتخابية المحصّنة.
فكان اختيار ميشيغن التي سبق وفاجأت حملة كلينتون في الانتخابات التمهيدية وقلبت كل التوقعات واستطلاعات الرأي، وصوّت الديمقراطيون فيها ضد مرشحة المؤسسة الحزبية ولصالح ساندرز الاشتراكي الآتي من خارج المؤسسة الحزبية التقليدية، كترامب.
وفي موازاة "ظاهرة ترامب الثورية"، التي نمت واتسعت على يمين الحزب الجمهوري، شكّل خطاب ساندرز، المدافع عن حقوق العمال والداعي إلى تعليم جامعي وتأمين صحي مجاني لجميع الأميركيين حالة ثورية على يسار الحزب الديمقراطي.
وفي وقتٍ انتصرت فيه ثورة ترامب اليمينية على الحزب الجمهوري، ووجّهت ضربات قوية لقيادته ورموزه التقليدية مثل آل بوش والسيناتور جون ماكين والمرشح الرئاسي السابق ميت رومني، تمكن الحزب الديمقراطي وتحالف آل كلينتون مع الرئيس باراك أوباما، من إجهاض ثورة ساندرز اليسارية في مهدها، لكنه فشل لاحقاً في تدجين الناشطين الشباب واقناعهم بالانضمام إلى حملة كلينتون بعد إعلان ترشيحها رسمياً في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي.
وعلى الرغم من تبنّي المرشحة الديمقراطية لبنود أساسية من أجندة ساندرز وأوباما اليسارية، إلا أنها بقيت بعيدة عن قلب الشباب المطالب بالتغيير. والأرجح أن كثيراً من هؤلاء صوّتوا لصالح مرشح اليمين الأميركي وشعاراته الثورية الداعية لإسقاط نظام الفساد والمصالح، الذي يرتبط عضوياً بمؤسستي الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
بهذا المعنى تطرح الهزيمة الانتخابية الثقيلة التي تعرض لها الديمقراطيون في الانتخابات أسئلة حول مستقبل الحزب وقيادته والقوة المؤثرة على قراره. تلك الأسئلة مشابهة لتلك المطروحة أيضاً على الحزب الجمهوري ومستقبله وعلاقته مع ترامب.
كما أنه ثمة أسباب أخرى لهزيمة كلينتون، منها تداعيات قضية البريد الإلكتروني، التي شهدنا فصلاً آخر من فصولها خلال الأيام العشرة التي سبقت الانتخابات، عندما أعلن مدير مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) جيمس كومي، إعادة التحقيقات بقضية استخدام كلينتون بريدها الإلكتروني الخاص، خلال عملها في وزارة الخارجية، بعد العثور على آلاف الرسائل الإلكترونية، على جهاز كومبيوتر أنتوني وينير، عضو الكونغرس السابق، زوج حمى عابدين مستشارة كلينتون المقرّبة.
كما رأى مؤيدون لكلينتون أن "الأجواء داخل فريقها الخاص الذي يواكبها مع زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون، منذ دخولهما البيت الأبيض عام 1992، إلى عملها في وزارة الخارجية وفي مؤسسة كلينتون الخيرية، لا توحي بالثقة بعد الرسائل الإلكترونية التي سربها ويكيليكس خلال الأسابيع الماضية".
وأبدى هؤلاء اعتقادهم بأنه "كان ينبغي على المرشحة الديمقراطية إعادة النظر بالدائرة الصغرى المحيطة بها، لأن هذه المجموعة من المستشارين المخضرمين، مثل مدير حملتها جون بوديستا، الذي كان الرجل القوي في البيت الأبيض، في عهد بيل كلينتون، أو حمى عابدين التي رافقتها منذ أكثر من 20 عاماً، تحولت بعد هذه السنوات إلى متسببين بأضرار كبيرة بحملتها الانتخابية الرئاسية.
لا شك أن كلينتون والحزب الديمقراطي وكثيراً من الجمهوريين من معارضي ترامب، يحتاجون لبعض الوقت لإعادة مراجعة ما جرى في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، لاستيعاب الصدمة التي أحدثها فوزه الكاسح في الانتخابات الرئاسية. جميع هؤلاء، وهم كثر في أميركا والعالم، كانوا على ثقة بأن رجل الأعمال وتاجر العقارات، الدخيل على السياسة، لم يكن جدياً في إعلان ترشحه لخوض السباق الرئاسي، لذلك هم أيضاً لم يأخذوا الأمر على محمل الجد، واعتبروا أن ترشح ترامب مجرد مغامرة جديدة من مغامرات الملياردير النيويوركي أو استعراض تلفزيوني آخر يرضي شهوته للشهرة.
اختار ترامب خطاباً انتخابياً شعبوياً يستثير مشاعر ملايين الأميركيين من أبناء البيض من العمال وسكان الأرياف، الذين تراجع مستوى معيشتهم بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة والعالم في الفترة الرئاسية الثانية لجورج بوش الابن (2004 ـ 2008).
اختار ترامب لمواجهة منافسيه من المرشحين الجمهوريين خطاباً نقدياً ضد المؤسسة الحزبية، التي كانت تفضل مرشحين آخرين لتمثيل الحزب في السباق الرئاسي. خطاباً مواجهاً للطبقة السياسية الحاكمة في واشنطن، ومتهماً إياها بالفساد والانصياع لرغبة اللوبيات والمصارف ومجموعات المصالح الخاصة.
عليه، خاض ترامب المواجهة داخل صفوف الجمهوريين تحت هذا الشعار، مستعيناً بالشارع وبالقواعد الشعبية الجمهورية المتشددة. وردّ على محاولات استبعاد ترشيحه من خلال أنظمة الحزب الانتخابية، باعتبار أن "هذه الأنظمة فاسدة، ويجب تغييرها وإدخال دماء جديدة لقيادة الحزب الجمهوري المتواطئ مع إدارة أوباما والمؤسسات الحاكمة في واشنطن"، او ما يعرف بـ"الاستبلشمنت الأميركي". نجحت استراتيجية ترامب بتهديد القيادة الجمهورية باللجوء إلى الشارع واستخدام أنصاره في "الحرب الأهلية" التي شهدها الحزب حول ترشحه. وتمكن من إزاحة 16 منافساً لينال ترشيح الحزب رسمياً.
وخلال المعركة الانتخابية مع كلينتون، استعان ترامب بنفس الاستراتيجية، رافعاً شعار "محاربة فساد الاستبلشمنت"، معتبراً أن "كلينتون أحد أبرز رموز هذا الفساد، وحلقة الوصل بين مجموعات المصالح الدولية والمؤسسة السياسية الأميركية التقليدية". كما أقنع جمهوره من المتطرفين البيض، أن "وزيرة الخارجية السابقة متورطة في مؤامرة دولية ضد الطبقة العاملة الأميركية"، ثم انتقل إلى نظرية تزوير الانتخابات، فردّ أنصاره بالتهديد بالنزول إلى الشارع والاعتصام في واشنطن في حال فوز كلينتون، حتى طردها من البيت الأبيض.