لم يستبعد محللون ماليون أن يعمد دونالد ترامب، خلال السنوات الأربع المقبلة من رئاسته، إلى إعادة صياغة القوانين التي تحكم عمل بنك الاحتياطي الفدرالي "المركزي الأميركي".
ولم يتورع دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية، من توجيه انتقادات لاذعة لرئيسة الاحتياطي الفدرالي، جانيت يلين، واتهامها بالتدخل في الانتخابات عبر توجيه السياسة النقدية لدعم المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وكان بنك "الاحتياطي الفدرالي" الذي واجه في السابق انتقادات عنيفة من بعض أعضاء الكونغرس المنتمين للحزب الجمهوري، يحظى دائماً بحماية من الرئيس، باراك أوباما، ولكن يبدو أن هذه الحماية ستنتهي مع حلول دونالد ترامب في البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني المقبل.
ومن غير المعروف، حتى الآن، ماذا يريد الرئيس ترامب من مصرف "الاحتياطي الفدرالي"، فهو متناقض في الآراء النقدية التي عومها خلال الحملة الانتخابية، فتارة يقول، إنه من أنصار "الفائدة المنخفضة"، وتارة أخرى ينتقد الفائدة المنخفضة، ويقول إنها خلقت اقتصاداً زائفاً. وبالتالي يجد خبراء المال في قراءة توجهات الفائدة خلال الفترة المقبلة على الرغم من ترجيح العديد منهم لعدم رفعها من مستواها الحالي خلال النصف الأول من العام الجاري. وذلك ببساطة لأن ترامب بحاجة للفائدة المنخفضة حتى يتمكن من تمويل مشاريعه الاقتصادية.
ولإيضاح الضبابية التي تحيط بسياسة الرئيس ترامب النقدية، لابد من إيراد بعض التصريحات التي أدلى بها أثناء حملته الانتخابية، فقد قال في الخامس من مايو/ آذار الماضي، إنه يؤيد الفائدة المنخفضة وعاد في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ليقول "كان يجب على يلين رفع الفائدة ولكن أوباما منعها من ذلك". وهكذا يتذبذب الرئيس الجديد في سياسته
ومن هذا المنطلق يرى خبراء في معهد "بيترسون" أن الرئيس، دونالد ترامب، يطرح أفكاراً مربكة حول توجهات تعامله مع مصرف "الاحتياطي الفدرالي" وسياسة النقد العالمي عموماً. ومن خلال جرد للأفكار التي طرحها يمكن القول، إن دونالد لا ينوي فقط مراجعة سياسات بنك الاحتياطي الفدرالي "البنك المركزي الأميركي"، ولكن ينوي كذلك مراجعة نظام النقد العالمي برمته.
وترى الاقتصادية الأميركية، الدكتورة جودي شيلدون، وهي واحدة من مخططي السياسة المالية لدونالد ترامب، أنه ينوي مراجعة السياسات النقدية لرئيسة مصرف "الاحتياطي الفدرالي" جانيت يلين، ولكنه لا ينوي عزلها، على الرغم من عدم رضاه عن سياستها النقدية. وهو ما جعل العديد من خبراء النقد غير قادرين على قراءة توجهات السياسة النقدية في عهد ترامب، وعما إذا كان سيرفع الفائدة أم لا. وهذه الحيرة تلف مواقف الملياردير ترامب في عدد من القضايا المالية. فعلى الرغم من أن السياسات الاقتصادية التي طرحها، حتى الآن، تعمل على زيادة الإنفاق وخفض الضرائب. وهذا يعني عملياً أنه سيكون بحاجة إلى إصدار سندات جديدة لتمويل العجز الكبير المتوقع في الميزانيات الأميركية المقبلة.
ومن بين بنود الإنفاق التي يقترحها الرئيس ترامب صرف 500 ألف مليار دولار على مشاريع البنى التحتية. ويتوقع خبراء ماليون أن الرئيس ترامب حينما يتسلم زمام الحكم سيجد نفسه أمام معادلات مالية واقتصادية لا مفر من التعامل معها ولا تقبل القسمة أو الاحتمالات ومن بينها إنعاش الاقتصاد الأميركي عبر السياسة النقدية المرنة التي تسمح بتمويل المشاريع بأقل كلفة وتوفير فرص العمل للجماهير العمالية التي حملته للبيت الأبيض.
وعبر التاريخ الأميركي، فإن الساسة الشعبيين، أي الذين صعدوا للحكم عبر "الموجات الجماهيرية"، وليس المؤسسة الحزبية، استخدموا السياسات النقدية المرنة مثل التي اتبعها بنك "الاحتياطي الفدرالي" منذ أزمة المال في زيادة معدل النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل للطبقات الفقيرة التي دعمتهم سياسياً في الانتخابات.
ولكن هذا لا يبعد الاحتمال الخطر، وهو إجراء تعديل جذري في القانون الذي يحكم استقلالية بنك "الاحتياطي الفدرالي". وربما يكون ترامب الذي هاجم رئيسة الاحتياطي الفدرالي، ينوي التخلص منها، ولكنه يبقي ذلك حينما تسنح الفرصة، ولكن المؤكد أنه لن يجدد لها دورة أخرى حينما تنتهي دورتها الحالية في العام 2018.
ويرى دونالد ترامب أن سياسة الفائدة المنخفضة القريبة من الصفر وسياسات "التيسير الكمي" التي نفذها عقب أزمة المال العالمية في العام 2008، لم تساهم حقيقة في دعم النمو الاقتصادي الأميركي وإنما في المقابل خلقت "اقتصاداً زائفاً". ويقول إن هذه السياسة ستقود تدريجياً إلى أزمة مالية.
ويتجاهل ترامب في قراءته للسياسة النقدية، مزايا السياسة النقدية المرنة التي نفذها بنك الاحتياطي ومنذ أزمة المال في إنقاذ النظام المالي العالمي وإنقاذ مصارف أميركا من الإفلاس، كما يتجاهل تداعيات هذه السياسة الإيجابية في خفض نسبة البطالة من فوق 10% إلى 5.0% حالياً، وملايين فرص العمل الجديدة التي وفرتها الشركات في سوق العمل الأميركية.
وتقول الدكتورة، شيلدون، المنتمية لمعسكر ترامب، إن سياسة الفائدة الصفرية وما تلاها من سياسة "التيسير الكمي" التي اتبعها مصرف "الاحتياطي الفدرالي"، ضخت مليارات الدولارات وبكلفة منخفضة في جيوب المستثمرين الأثرياء وشركاتهم والقادرين على الاقتراض الاستثماري، وتم ذلك على حساب أصحاب الادخارات البسيطة من عامة الشعب وأصحاب المعاشات.
ويرى اقتصاديون، أن هذه السياسات ساهمت حقيقة في زيادة الأثرياء ثراءً والبسطاء فقراً. وبالتالي رفعت هذه السياسة النقدية من التمايز الطبقي والفوارق المادية داخل المجتمع الأميركي، وقضت إلى حد ما على الطبقة الوسطى.
وكما ينتقد اقتصاديون كذلك هذه السياسة بقولهم إنها ساهمت في تضخيم ثروات شركات "وول ستريت" لأنها اشترت منها السندات الفاسدة بأسعار أكبر من قيمها الحقيقية. كما أنها ساهمت ثالثاً في رفع أسعار الأسهم الأميركية إلى "مستويات وهمية"، أي أنها أسعار لا تعكس القيمة الحقيقة لهذه الأسهم. وكان المستفيد الأول من هذه القيمة الوهمية هم الأثرياء الذين تدفقت لهم الأموال الرخيصة من الاحتياطي الأميركي وليس طبقة العمال أو حتى الطبقة الوسطى.
وحتى الآن من غير المعروف، كيف سيوازن دونالد ترامب بين الحفاظ على مكانة الدولار وجاذبية سندات الخزانة وسط هذه التصريحات التي أطلقها أثناء حملته الانتخابية وانتقد فيها الاحتياطي الفدرالي وسياساته، كما قال إنه لن يدفع لحملة السندات الأميركية كامل استحقاقاتهم. وسط هذه الربكة، أجرت الصين، يوم الأربعاء، وهو اليوم الذي أعلن فيه فوز ترامب بالرئاسة صفقة بيع ضخمة بمليارات الدولارات لجزء من حيازتها في سندات الخزانة الأميركية التي تفوق 1.5 ترليون دولار.
ويرى مصرفيون في "وول ستريت" أن الرئيس ترامب سيكون أمام امتحان حقيقي حينما يصبح رسمياً الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة في يناير/ كانون الثاني. ويقولون في هذا الصدد إن الدولار يشكل حجر الزاوية في الاقتصاد الأميركي وإذا لم يضع الرئيس ترامب سياسات مالية واضحة أو تلاعب باستقلالية مصرف الاحتياطي فإن ذلك ربما يهز السياسة النقدية والاقتصادية في البلاد.