09 نوفمبر 2024
محاولة لفهم ما يجري في الجزائر
بدأت، منذ العام 2013، سلسلة من الأزمات تكتنف الجزائر (40 مليون نسمة). بدأت الأزمة الأولى بالأخبار المتسرّبة، ثم البيانات الرسمية، عن صحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (80 عاما) الذي يحكم الجزائر منذ 1999. زياراته المتكرّرة للعلاج في الخارج، وعدم استقباله مسؤولين أو زائرين رسميين، كشفا عن حجم المشكلة الصحية، إلى أن ظهر على مقعدٍ متحرّك. ومع شعور الجزائريين بالصدمة لما أصاب رئيسهم الثامن منذ الاستقلال، وأحد مناضلي جبهة التحرير، ساد قلقٌ في أوساط الرأي العام، ولدى نخب الأحزاب والتكنوقراط، على مآل الجمهورية، لا سيما أن الرئيس ظلّ متمتعا بسلطات الحكم في نظام رئاسي، حيث إن رئيس الجمهورية يتمتع برئاسة السلطة التنفيذية، على الرغم من وجود منصب وزير أول (رئيس الوزراء). ودأب مسؤولون على القول إن الرئيس يتمتع بالأهلية الصحية والعقلية، على الرغم من الأزمة الصحية الصعبة التي تعرّض لها. وقد ترشّح الرئيس للانتخابات الرئاسية في العام التالي 2014. وكان مثيرا للانتباه أن المترشح لم يقم بحملة انتخابية، بل تولى قيادة الحملة رئيس الوزراء آنذاك، عبد المالك السلال. وقد فاز في الانتخابات، وما زال الرئيس حتى أيام الناس هذه يقود البلاد، وقد أقال في أغسطس/ آب من العام 2014 مستشاره الخاص، وأحد أقرب المقرّبين إليه، عبد العزيز بلخادم، كما طرده حزب جبهة التحرير، على الرغم من أنه أحد القادة التاريخيين للجبهة. كما أقال الرئيس، في سبتمبر/ أيلول من العام 2015، مدير جهاز المخابرات الجنرال محمد مدين (توفيق)، في سلسلة من تغييراتٍ طاولت مسؤولين في أجهزة الأمن. وقد أقال أخيرا رئيس الحكومة، عبد المجيد تبون، بعد أقل من ثلاثة أشهر على تعيينه (وكان أقال وزير السياحة، مسعود بن عقون، بعد يومين على تشكيل الحكومة في مايو/ أيار الماضي). وخلافاً للتقاليد المتبعة في الجزائر، وفي دول أخرى، فإن الرئيس لم يستقبل رئيس الحكومة المُقال تبون، ولا رئيس الحكومة المُعين أحمد أو يحيى، إذ جرت مراسم التسليم والاستلام بين الرجلين في دار رئاسة الوزراء، وبغير مظاهر احتفالية تُذكر.
ومن غرائب الحياة السياسية في الجزائر أن الرئيس سبق أن أبطل مادة في الدستور(رقم 74) تقيد فترة حكم الرئيس بولايتين، ما أتاح فرصة الترشح لولاية ثالثة في العام 2014، إلا أنه أعاد العمل بها في فبراير/ شباط 2016، ضمن تعديلاتٍ دستوريةٍ، وافق عليها البرلمان بأغلبية كاسحة، اقتربت من 500 نائب، تنص على ولايتين فقط للرئيس، على أن التعديل يتيح للرئيس، ابتداء من تاريخ سريان التعديلات الدستورية، الترشح لولايتين: رابعة وخامسة. وعلى الرغم من مرور التعديلات في البرلمان، إلا أنها أشاعت بلبلةً في الشارع السياسي لسببين. الأول أنها تتيح للرئيس، على الرغم من وضعه الصحي الترشح مجدّداً. والثاني لأن التعديلات تمت، بالدرجة الأولى، لمصلحة الرئيس الذي ما زال يتمتع بقسط ملحوظ من الشعبية، لكن مسألة وراثته تثير قلقا شديدا لدى الجمهور، في وقتٍ يُلاحظ فيه النفوذ المتزايد لشقيق الرئيس، سعيد بوتفليقه، على الرغم من أنه لا يحوز أي منصب رسمي.
ويسترعي الاهتمام أن البلاد تعيش على وقع منافساتٍ محمومة بين النخب، ولكن ليس على مستوى التنافس بين أحزاب الموالاة وأحزاب المعارضة، بل على مستوى أضيق، إذ تجري ضمن الأوساط القيادية لحزب جبهة التحرير، وكذلك بين حزب الجبهة الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة المقال تبون، والتجمع الوطني الديمقراطي الذي ينتسب إليه رئيس الحكومة المعيّن أو يحيى (65 عاما) الذي طالما جرى تقريبه إلى أعلى المناصب، وإبعاده عنها في السنوات العشر الأخيرة، وينسب إليه قوله عن نفسه إنه "رجل المهمات الحساسة". لكن الجزائريين يستشعرون أن دائرة الحكم تضيق، وأنها تقتصر على عددٍ ضئيل من رجال الحكم الذين يقيم بعضهم تحالفاتٍ مع رجال أعمال.
وقد نُسب إلى رئيس الحكومة المقال، عبد المجيد تبون، أنه سعى إلى الحد من نفوذٍ أخذ يتزايد لرجال الأعمال على المجال السياسي، فيما يفتقد سواد الناس قناةً وسيطةً بينهم وبين مستويات الحكم العليا.
أما الانتخابات البرلمانية، فإنها تمنح على الدوام حزبي الموالاة، جبهة التحرير والتجمع الوطني، أغلبية كاسحة في البرلمان (المجلس الشعبي الوطني). وقد فاز الحزبان، في انتخابات مايو/ أيار الماضي، بما مجموعه 361 مقعدا من أصل 462، وهما يمتلكان نفوذا هائلا في مختلف مؤسسات الإدارة، فيما فازت ثمانية أحزاب بمقعدين لكل منها، وفاز حزبان بمقعد واحد لكل منها، فيما لم يفز 17 حزبا بأي مقعد. وحذفت وزارة الداخلية أكثر من مليوني صوت من جملة ثمانية ملايين ونصف مليون صوت ! ما أثار تساؤلاتٍ جدية بشأن سلامة هذه العملية،
في انتخاباتٍ بلغت نسبة المشاركة فيها أقل من 39%. ومع الحذف المستغرب لعدد ضخم من الأصوات، فإن نسبة المشاركة تهبط إلى نحو 28% من جملة من يحق لهم الاقتراع.
وبطبيعة الحال، تتغذّى أجواء الأزمة المُركبّة التي تخيم على الفضاء السياسي من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالميزانية العامة، مع تدهور أسعار النفط منذ 2015. ويشكل النفط 95% من صادرات البلاد، فيما يشهد قطاعا الصناعة والزراعة تقهقرا مستمرا، مع عدم إيلاء اهتمام خاص للسياحة. ويخشى الجمهور العريض من رفع الدعم عن مواد أساسية منها النفط، وذلك بعد زيادة الضريبة المضافة إلى 19%. وتفيد إحصائيات بوجود نحو مليون ونصف مليون شاب متعطل. ومع أزمة السكن المستفحلة، واستشراء الغلاء والبطالة، تضاءلت إمكانية إقبال الشرائح الشابة على الزواج، ما أدى إلى بقاء أكثر من خمسة ملايين من الإناث في سن الزواج بغير زواج.
ولطالما صُنفت الجزائر، في العقود الماضية، من البلدان ذات النفوذ الإقليمي الوازن، والتي اصطفّت إلى جانب حركات التحرّر، وكانت شديدة القرب من "المعسكر الاشتراكي" إبّان الحرب الباردة. على أن العهود المتواصلة، بما فيها عهد الرئيس الحالي بوتفليقة، لم تولِ اهتماما كافيا لتحديات الداخل: بناء دولة حديثة وتحقيق تنمية شاملة. وهو ما أورثها ازمات بنيوية، تتشابه، إلى هذا الحد أو ذاك، مع أزماتٍ عاشتها دولٌ تُعلي من شأن الأيديولوجيا، والنفوذ في الخارج، بديلاً لمواكبة العصر، وتطوير مستويات الحياة في الداخل.
ومن غرائب الحياة السياسية في الجزائر أن الرئيس سبق أن أبطل مادة في الدستور(رقم 74) تقيد فترة حكم الرئيس بولايتين، ما أتاح فرصة الترشح لولاية ثالثة في العام 2014، إلا أنه أعاد العمل بها في فبراير/ شباط 2016، ضمن تعديلاتٍ دستوريةٍ، وافق عليها البرلمان بأغلبية كاسحة، اقتربت من 500 نائب، تنص على ولايتين فقط للرئيس، على أن التعديل يتيح للرئيس، ابتداء من تاريخ سريان التعديلات الدستورية، الترشح لولايتين: رابعة وخامسة. وعلى الرغم من مرور التعديلات في البرلمان، إلا أنها أشاعت بلبلةً في الشارع السياسي لسببين. الأول أنها تتيح للرئيس، على الرغم من وضعه الصحي الترشح مجدّداً. والثاني لأن التعديلات تمت، بالدرجة الأولى، لمصلحة الرئيس الذي ما زال يتمتع بقسط ملحوظ من الشعبية، لكن مسألة وراثته تثير قلقا شديدا لدى الجمهور، في وقتٍ يُلاحظ فيه النفوذ المتزايد لشقيق الرئيس، سعيد بوتفليقه، على الرغم من أنه لا يحوز أي منصب رسمي.
ويسترعي الاهتمام أن البلاد تعيش على وقع منافساتٍ محمومة بين النخب، ولكن ليس على مستوى التنافس بين أحزاب الموالاة وأحزاب المعارضة، بل على مستوى أضيق، إذ تجري ضمن الأوساط القيادية لحزب جبهة التحرير، وكذلك بين حزب الجبهة الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة المقال تبون، والتجمع الوطني الديمقراطي الذي ينتسب إليه رئيس الحكومة المعيّن أو يحيى (65 عاما) الذي طالما جرى تقريبه إلى أعلى المناصب، وإبعاده عنها في السنوات العشر الأخيرة، وينسب إليه قوله عن نفسه إنه "رجل المهمات الحساسة". لكن الجزائريين يستشعرون أن دائرة الحكم تضيق، وأنها تقتصر على عددٍ ضئيل من رجال الحكم الذين يقيم بعضهم تحالفاتٍ مع رجال أعمال.
وقد نُسب إلى رئيس الحكومة المقال، عبد المجيد تبون، أنه سعى إلى الحد من نفوذٍ أخذ يتزايد لرجال الأعمال على المجال السياسي، فيما يفتقد سواد الناس قناةً وسيطةً بينهم وبين مستويات الحكم العليا.
أما الانتخابات البرلمانية، فإنها تمنح على الدوام حزبي الموالاة، جبهة التحرير والتجمع الوطني، أغلبية كاسحة في البرلمان (المجلس الشعبي الوطني). وقد فاز الحزبان، في انتخابات مايو/ أيار الماضي، بما مجموعه 361 مقعدا من أصل 462، وهما يمتلكان نفوذا هائلا في مختلف مؤسسات الإدارة، فيما فازت ثمانية أحزاب بمقعدين لكل منها، وفاز حزبان بمقعد واحد لكل منها، فيما لم يفز 17 حزبا بأي مقعد. وحذفت وزارة الداخلية أكثر من مليوني صوت من جملة ثمانية ملايين ونصف مليون صوت ! ما أثار تساؤلاتٍ جدية بشأن سلامة هذه العملية،
وبطبيعة الحال، تتغذّى أجواء الأزمة المُركبّة التي تخيم على الفضاء السياسي من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالميزانية العامة، مع تدهور أسعار النفط منذ 2015. ويشكل النفط 95% من صادرات البلاد، فيما يشهد قطاعا الصناعة والزراعة تقهقرا مستمرا، مع عدم إيلاء اهتمام خاص للسياحة. ويخشى الجمهور العريض من رفع الدعم عن مواد أساسية منها النفط، وذلك بعد زيادة الضريبة المضافة إلى 19%. وتفيد إحصائيات بوجود نحو مليون ونصف مليون شاب متعطل. ومع أزمة السكن المستفحلة، واستشراء الغلاء والبطالة، تضاءلت إمكانية إقبال الشرائح الشابة على الزواج، ما أدى إلى بقاء أكثر من خمسة ملايين من الإناث في سن الزواج بغير زواج.
ولطالما صُنفت الجزائر، في العقود الماضية، من البلدان ذات النفوذ الإقليمي الوازن، والتي اصطفّت إلى جانب حركات التحرّر، وكانت شديدة القرب من "المعسكر الاشتراكي" إبّان الحرب الباردة. على أن العهود المتواصلة، بما فيها عهد الرئيس الحالي بوتفليقة، لم تولِ اهتماما كافيا لتحديات الداخل: بناء دولة حديثة وتحقيق تنمية شاملة. وهو ما أورثها ازمات بنيوية، تتشابه، إلى هذا الحد أو ذاك، مع أزماتٍ عاشتها دولٌ تُعلي من شأن الأيديولوجيا، والنفوذ في الخارج، بديلاً لمواكبة العصر، وتطوير مستويات الحياة في الداخل.