لم يتغير شيء في العلاقة بين محمد أركون، الذي مرت ذكرى وفاته الرابعة أمس، وبلده، الجزائر. الرجل الذي رحل عام 2010، ودفن جثمانه في المغرب، بحسب وصيته التي أعلنتها عائلته حينها، أهمله وطنه حياً، وقاطعه ميتاً؛ ولم يلق، لا وقت رحيله ولا اليوم، إلا بعض التحركات الجامعية والمؤسساتية القليلة التي تثمّن مشروعه الفكري بوصفه من ركائز الدراسات الإسلامية المعاصرة في العالم.
صرّح أركون، في مفاصل كثيرة من كتبه وحواراته، أنه يحمل الجزائر في قلبه وفكره، وأن جفاءه مع البلد لا يشمله تاريخاً وأرضاً، بل نظامَ حكم تأسّس، وفقاً إليه، على "سياج مغلق" يقصي كل فكر يشتغل على المستقبل ويضع الشرعية التاريخية في ميزان المساءلة.
يبرّر أستاذ الفلسفة المعاصرة في "جامعة قسنطينة"، الباحث إسماعيل مهنانة، موقف الجزائر في حق واحد من أكبر مفكريها بأن فكر أركون يمثّل الرواية المعارِضة والمفككة لأساطير الدولة المنبثقة عن النسق الاستعماري، إذ لطالما كان يحذّر من إفلاس الدولة اليعقوبية الحارسة لمسلّمات الهوية والعقيدة، وكان يتوقع انفراط عقد الهويّة المخترعة سياسياً في حربٍ أهلية قبل حدوثها.
هكذا، ظلّت العلاقة بين المفكّر والسلطة، بحسب مهنانة، "مرتبكة ومضطربة، وظل الرجل ملعوناً في المشهد الجزائري، إذ لم ينتبه الباحثون الجامعيون في الجزائر، إلا في السنوات العشر الأخيرة، إلى أهمية فكره، حين جاءت شهرته، كالعادة، من المشرق، بعد ترجمته هناك".
يقول مهنانة إن أركون "يعدّ أوّل من وضع قطار الفكر النقدي على السكّة الصحيحة، وإنه كرّس كل كتاباته لطرح المداخل الإبستمولوجية لمقاربة مسألة الدين، والنص، والمقدّس، والتاريخ المشترك، وهي المداخل التي يجب استئنافها واستنفاد دروبها من طرف الباحثين".
من جهته، يقول الكاتب وأستاذ النقد المعاصر في "جامعة جيجل"، فيصل الأحمر، إن أركون يشكل، بالنسبة إليه، "منعرجاً معرفياً لا بد منه، فهو حالة فلسفية نجحت في جمع أساساتٍ منهجية متنوعة لم يكن لها أن تجتمع لولا توفر مجموعة من العناصر التاريخية والمنهجية والشخصية أيضاً".
الأحمر يرى أن الفكرة المحرّكة لأركون في إطار مشروعه المندرج ضمن ما يمكن تسميته بسلسلة مشاريع "تجديد العقل العربي والإسلامي"، كانت هي دراسة النص القرآني حسب المناهج الحديثة والحداثية، المناهج النصّانية. وهنا، حسب الأحمر، يُطرح السؤال المركزي الأول: ماذا يمكننا أن نستخرج من النص القرآني لو نزعنا عنه الطبقات الكثيفة من الشروح والتعليقات والتفسيرات التي التصقت به على مر السنين؟
وحسب الأحمر، فإن هذه الخلفية تبدو، للوهلة الأولى، أنها تنزع القداسة عن النص القرآني وتتعامل معه كنص "بشري"، إلا أن المدرسة الكلاسيكية في مجال الدراسات الدينية والقرآنية لم ترقَ إلى تحريم السؤال الخارج عن أطروحتها.
ويضيف الأحمر أن أركون سار على هذا المنهج منشئاً قسماً لدراسات "الإسلامولوجيا" في فرنسا، وسط ضجيج المشككين فيه وفي نواياه، وفي خطر أن تضطلع الجامعات الغربية بمهمة فهم القرآن وتحديد تحديات الإسلام الجديدة، في وقت يشكك فيه الكلاسيكيون في نوايا من يعملون مع أركون، أو مَن هم حوله أو تحت إشرافه. والنتيجة، كما يقول الأحمر، "نراها اليوم: مدرسة متكاملة يبدو أنها تملك إجاباتٍ لكثير من تساؤلات مسلمي اليوم الذين يبدو بوضوح أن إجابات الأمس لم تعد اليوم تسمح لهم بتخطي حجاب الزمن الحاجز في اتجاه الغد. إنه واقع عربي إسلامي في حاجة عميقة إلى أن يُقرأ من جديد على ضوء النزعة الأركونية".
ويقول الباحث أحمد الدلباني إن محمد أركون حاول أن يقتربَ من الأزمات البنيوية العميقة للعرب والمسلمين، والتي تقفُ حائلاً أمام اجتراح آفاق التحديث العقلي والاجتماعي والسياسي.
"لقد كان رجل نقد باعتباره فتح مضمار اللامُفكَّر فيه، وجدّدَ، منهجياً، دراسة الإسلام وتراثه ودراسة الظاهرة الدينيّة من خلال مُحاولة دمج المثال الإسلاميّ في برنامج ضخم للأنثروبولوجيا الدينيّة، بعيداً عن مُسبّقات الوعي القروسطي".
"إنه نموذج للمثقف الذي لم يقع ضحية الوعود الأيديولوجية الجاهزة التي استعادت الأخرويات التقليدية في جبة علمانية"، يقول الدلباني عن أركون، "كما كان شديدَ الحذر من الإسلاميات الكلاسيكية التي مثّلها الاستشراق المُفعَم بالمُسبَّقات اللاهوتية والعنصرية في النظر إلى الآخر إبَّان الحقبة الكولونيالية".
لقد طرح أركون، بحسب الدلباني، أسئلة غير مسبوقة على التراث الإسلامي وواقع المُسلمين اليوم؛ وكان في ذلك كله مُسلّحاً بمنهجية مفتوحة، تنهلُ من فتوحات الفكر النقدي في أحدث تجلياته واختراقاته. "وأكثر ما يشدني، شخصياً، إليه، هو نضاله أيضاً من أجل الأنسنة الغائبة عن واقع المسلمين اليوم، رغم غنى التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المجال كما بيّن، هُو نفسُه، في دراسات شهيرة".
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن ابنة الراحل، سيلفي أركون (1963)، تستعد هذه الأيام لإصدار كتاب عن مسارات والدها، وفاءً لرغبته في أن يكتب مذكراته، هو الذي لم يكن لديه الوقت الكافي للقيام بذلك