على عراقة صناعة المعاجم في الثقافة العربية، نجد اهتماماً نادراً بالبحث ضمن هذا الحقل المعرفي، وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت التفاتاً بارزاً في هذا الاتجاه، لعلّ أبرز تجلّياته إطلاق مشروع "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" منذ قرابة سنة، وصدور عددٍ من المؤلّفات في هذا السياق سنة 2019؛ مثل "التراث المعجمي العربي" لـ رمزي منير بعلبكي، و"القاموسية العربية الحديثة" لـ عبد العلي الودغيري.
مؤخراً، صدر كتاب جديد ضمن حقل المعجمية بعنوان "المعجم المدرسي.. دراسة تحليلية للوافر وجيز" (منشورات عالم الكتب الحديث، 2020) للباحث المغربي محمد الرفيق، وهو يلتفت إلى نوع مخصوص من المعاجم؛ هي تلك التي تُستعمَل في العملية التربوية.
حول دواعي إنجاز هذا الكتاب، يقول الرفيق في حديث إلى "العربي الجديد": "بدأ ذلك في إطار أكاديمي ضمن مجال اللسانيات العربية والإعداد اللغوي. وقد دعاني إلى البحث في هذا الموضوع أمران: أحدهما أني أعمل أستاذاً للغة العربية ووجد أستاذي المشرف أنه من الجيّد توظيف هذه الميزة في دراسة أحد عناصر العملية التعليمية وهو المعجم. وثانيهما هو ملاحظة ذيوع هذا النوع من المعاجم المتخصّصة في سوق الكتب في المغرب وكثير من البلدان العربية، وهي كتب موجّهة إلى فئة يجب الاحتياط في ما نقدّمه لها من كتب ومعاجم، فكان الاتجاه إلى دراسة معجم الوافر وجيز".
يشير المؤلف إلى عدد من الإشكاليات التي حاول كتابه أن يخوض غمارها، ومنها "التعميم المغلوط الذي يرى أن المعجم المدرسي العربي يمكن أن يستعمله المتعلّمون في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وكانت دراسة معجم (الوافر وجيز) مناسبة لتبيان غلط هذا التصوّر، لأنه معجم صدر في لبنان ويسوّق في البلدان العربية على أنه معجم مدرسي، لكن دراسته بيّنت أنه مختصَر لمعجم لغوي عام، ولا يمكن اعتباره معجماً مدرسياً لغياب أهم شروط المعجم المتخصّص. كما أنه يضم مفردات بعيدة عن مجال التعليم وأخرى عامية لا تُستخدم في بلدان المغرب العربي".
ويضيف: "هناك إشكال ثان يرتبط أساساً بمدى مقبولية الحديث عن معجم مدرسي واحد للمتعلّمين في مختلف مراحل التمدرس، وهو الأمر الذي يبدو مستحيلاً ما دام المتعلّم يمرّ بعدة مراحل دراسية تتطوّر خلالها مداركه الفكرية. لذا فإنّ القول بمعجم مدرسي بصيغة المفرد يجانب الصواب، بل لا بد من الحديث عن معاجم مدرسية تلبّي حاجيات المتعلّم في مراحل تمدرسه".
يلفت الرفيق إلى مسألة أخرى تتمثّل في "غياب المحلية في صناعة معاجم مدرسية، وهذه من الإشكالات الجوهرية التي تطرّقتُ إليها، لأنه، وبمسح للمعاجم التي يدّعي أصحابها أنها مدرسية، اتّضح أن جلّها منشورٌ في لبنان وسورية، والأكيد أنّ المقرّرات الدراسية تختلف من بلد إلى آخر، وبالتالي لن تستطيع هذا المعاجم أن تغطّي حاجة المتعلّمين إلى شرح المفردات، خاصّة تلك العلمية والتقنية".
ومن جهة أخرى، يعتبر الرفيق أن "هذه المعاجم المدرسية تأليفات فردية لا تسهر عليها مؤسّساتٌ ومنها هياكل وزارات التربية بما ينسجم مع مقرّارتها؛ فأغلب هذه المعاجم صادرة عن أشخاص وليس عن هيئات، ولذلك تغيب عنها كثير من ملامح الصناعة المعجمية، كالتنقيح المستمر مثلاً. ولذلك كانت هناك دعوة في هذا الكتاب إلى أن نستفيد من مخرجات الصناعة القاموسية في العالم الغربي لنصنع للناشئة معجماً مدرسياً يكون معيناً لهم في مختلف المواد الدراسية، إضافة إلى تحكيم الرؤية العلمية كتحديد لجان مؤهّلة تسهر على تأليف المعاجم المدرسية".
يفتح هذا البحث على إشكاليات أوسع من الفضاء التربوي، ومنها علاقة الثقافة العربية بالمعجم اليوم، وهنا يرى الرفيق أنه "يمكن الحديث عن فئة بعينها هي التي تلجأ إلى المعاجم، سواء اللغوية العامّة أو المتخصّصة كالمعجم المدرسي وغيره، وهي فئة الطلاب، وما ذلك إلّا بحكم حاجتها المتزايدة إلى البحث عن المعرفة والتحصيل الدراسي، سواء تعلّق الأمر بالمعاجم الورقية أو الإلكترونية التي أضحت واقعاً يُسهّل عملية الوصول إلى المعلومات. أمّا أغلبية الناس فتُعرض عن المعاجم لسبب ظاهر، وهو أنّ كثيراً من المواطنين في البلدان العربية لا يمارسون فعل القراءة للأسف. ولذلك قد تجد (لسان العرب) مثلاً في مكتبة الرجل، لكنه لم يرجع إليه البتّة".
سألنا محدّثنا عن رأيه في واقع الدراسات المعجمية اليوم، فأجاب قائلاً: "إن المتأمّل في الدراسات المعجمية في العالم العربي يرى كمّاً هائلاً من الأطروحات والدراسات والندوات التي تخصّص للدراسات المعجمية، والتي تنشط بالأخص في بلدان شمال أفريقيا، بل إننا أصبحنا نرى في جامعاتنا مختبرات بحثية متعلّقة بالدراسات المعجمية والمصطلحية يسهر عليها أساتذة مختصّون، مثل عبد العلي الودغيري وعبد الغني أبو العزم والطاهر ميلة وصونية بكال وإبراهيم بن مراد. ولا يمكن أن ننسى (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية)، وهو ما يجعلك راضياً عن الإنتاج العلمي في الدراسات المعجمية مؤخّراً".
يختتم الرفيق: "لكن المشكل الحقيقي أن نتائج هذه الدراسات لا يجري استثمارها وتصحيح مسار المعاجم العامّة أو المتخصّصة، فتُقبر هذه الآراء فوق رفوف المكتبات، ما يضيع على الوطن العربي مجهودات كثيرة كان من الممكن استثمارها للرقي باللغة العربية وإثبات أنها لغة تطوّر وعلم وليست لغة تخلّف كما يدّعي البعض".