محمد حميدي.. الحفر في اللون

21 ديسمبر 2014
من أعمال الفنان
+ الخط -
خمسون سنة مرّت على أول معرض للفنان المغربي محمد حميدي (1941). نصف قرن من البحث والإنجاز الهادئ والرصين، قاده إلى بلورة ملامح تجربة صباغية فريدة بتفاصيلها الصغيرة المعبّرة التي ما برحت تميّز عمله الذي يمكننا مشاهدة بعضٍ من ثماره في معرضه الجديد في رواق Loft، في مدينة الدار البيضاء، الذي يستمر حتى الثالث من كانون الثاني/ يناير المقبل.

مسارٌ طويل، إذاً، انخرط صاحبه خلاله في مساءلة ذكية لطبيعته الإنسانية، بكل تناقضاتها وعلاقاتها المتوترة مع كل ما يحيط بها من عوالم متحوّلة. ومن هذه المساءلة انبثقت أعمال فنية ومقترحات جمالية في منأى عن المغامرات الهشة التي أفرزتها مدونة التشكيل المغربي خلال السنوات القليلة الماضية.

ولعل هذا الانحياز الواعي إلى ضرورة الحفر عميقاً في المفردات التشكيلية نفسها، بما يقتضيه ذلك من تأن وانفتاح، هو ما يعطي انطباعاً أول لدى المتأمّل في أعمال حميدي بأنه لم يغادر بصمته الأولى، وبالتالي لم يذهب بعيداً في اقتراح بدائل فنية جديدة.

والحقيقة أنه، مثل قلة قليلة من الفنانين المغاربة الرواد، لم يهمل ذلك الرابط الضروري الذي يجمع بين الفعل الإبداعي ومتطلباته النظرية والمعرفية، بما هي شرط لإنضاج أي ممارسة فنية، والذهاب بها إلى أقصى ممكناتها الجمالية.

هذا المسعى الدؤوب يمنح أعمال حميدي مسحة تأملية واضحة، بعيداً عن أي ادعاء مجاني أو ركوب أي موجة طارئة. تأملٌ يستثمر في تلك العلاقة الغامضة التي تصل الإنسان بمحيطه، بالفضاء الذي يحتضن خصوصيته وحميميته، ويعلي من شأن هويته.

من هنا، إذاً، وفاؤه في عمله لكل ما يصبغ على الممارسة التشكيلية المغربية فرادتها، سواء في توظيفه للمفردات التشكيلية الهندسية التي تستثمر في الإحالات العمرانية المغربية الأصيلة، مثل الأقواس والأبواب والفسيفساء، وما يرتبط بها من أشكال مجرّدة، أو من خلال استحضار بعض العلامات التي ترجع إلى التراث التخطيطي أو الزخرفي، إن في بعدهما الأمازيغي المغربي أو في امتداداتهما الصحراوية الأفريقية، بما يؤكد على ملامح الهوية المغربية المتعددة والغنية في خصوصياتها وفي انفتاحها على الآخر.

وضمن الروح التأملية ذاتها، الحافلة بالإشارات، تكاد مجمل أعمال حميدي لا تخلو من حضور يحيل إلى الإنسان، ليس بشكل طاغ أو بسيط، وإنما كوجود يؤشّر إلى عناصر المتعة والإخصاب. ويظهر ذلك، أحياناً، على هيئة أثداء نسائية تشبه قباباً منتصبة، وأحياناً أخرى على هيئة أجساد ذكورية هلامية، إلى جانب توظيف أشكال كائنات لا يخفى طابعها الأفريقي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الكائنات، أو أجزاء منها، لا تحضر في أعمال حميدي وفق توظيف شكلي بسيط، وإنما بعد تأمّل عميق تنتج عنه صورٌ تساعد في خلق تناغم تشكيلي وإيقاع جمالي يوحيان بفرحٍ. إنه توظيف يعكس نوعاً من الغوص في النفس وفي الوجدان على شكل حكايات تستقرئ الدواخل أكثر من اعتدادها بالمظاهر أو تعلّقها بالمشاعر السطحية.

وما يعطي لهذا الاقتراح الفني قوته وبساطته في آن، هو ذلك الاستخدام غير المتكلف للألوان. إذ يبدو حميدي، في مجمل أعماله، مقتنعاً بالحضور المحايد للون في أقصى مستويات حرارته وصفائه ووضوحه.

إلا أن ما يميز هذا التوظيف هو طابع الانسجام بين الألوان الذي يعكس اكتفاءها بالحد الأدنى الذي يقود إلى المعنى وإلى وضوح الدلالة الفنية. فما بين اللونين الأحمر الآجوري والبني، ثمة تدرجات لونية محسوبة ودقيقة لا تبتعد كثيراً عن منطلقها الأصل إلا لتساهم في الكشف عن بعض المرادفات التي تغني الفهم وتوسّع من آفاقه. وبالتالي، تبدو أعمال حميدي بعيدة كل البعد عن ذلك التوظيف المجاني أو السهل لتقنية الخلطات التلوينية الشائعة.

المساهمون