بينما كانت عائلة علي ديريه تنزل من الطائرة في مدينة جدة، كان الطفل محمد، ابن الأعوام الستة، يتشبّث بوالدته محاولاً استعادة صورة الوطن الذي غادروه تواً، هرباً من الحرب الأهلية وبحثاً عن لقمة العيش. تمرّ في ذاكرته كل الصور التي رآها، وتلك التي نسجها بعبق حكايات والدته، فيمسك بكل التفاصيل، بما فيها تلك المتعلقة بولادته: "المخاض زار أمي في الصحراء المزروعة بالنجوم البيضاء، تماماً في جوار خيمة خالي أحمد. كانت ليلة مقمرة. أبصرت بوضوح وجهي، قبّلتني، فنمتُ على صدرها بهدوء، ثم كبرتُ بسرعة ككل أطفال البادية".
ثمة صور أخرى تتراءى أمامه، تنقله إلى دكان جدته وبيتها الصغير القابع خلفه. يقول لـ"العربي الجديد" ضاحكاً: "كانت جدتي تدهنني بالسمن المصفّى من سنام كلّ بعير ذُبح لضيف من ضيوف جدي". وتمرّ في ذهنه صورة المعلامة التي درس فيها، وهي حلقة لتحفيظ القرآن الكريم تشبه نظام الكتّاب العربي، وأيضاً صورة الطلبة يحملون الأقلام والألواح التي يستخدمونها بدلاً من الدفاتر التي تعدّ ترفاً في بلد تتهدده المجاعة.
اليوم، يبدو محمد ديريه (1984) من الأسماء الواعدة عند الحديث عن مستقبل الأدب المكتوب بالعربية في شرق أفريقيا. من يقرأ سردياته يلمس قدرته على تطويع لغته، وعلى التنقل السريع بين الأماكن والشخصيات والمواضيع من دون أن يفقد سيطرته على الفكرة الأساس في النّص واقتناصه أدقّ التفاصيل. عن ذلك يقول: "عندما بلغتُ سن الثالثة، ناولت الطبيبة الإيطالية أمي قطرةَ عين للرمد، وأخبرتها أن تُحفّظني الأشياء جيداً. فهمت أمي منها أنني، في الثامنة عشرة من عمري، إما أن أبصر كل شيء، حتى تلك الأشياء التي لا يراها الآخرون، أو أن أفقد بصري حتى يوم الدين".
يبتسم بينما يصف حالة أمه التي ركضت به إلى أحد الدكاكين مستعرضة ما فيها من خضروات بالأسماء: "بدأت تحفّظني كل شيء، الألوان، الفصول، وتجلس معي كل ليلة لأصف لها وجه من زارنا، وكيف أن نبرة صوت فلانة أكثر حدّة من تلك الأخرى. نبّهتني إلى أشياء لم أكن لأنتبه إليها لولا تلك الإيطالية التي غيّرت حياتي إلى الأبد".
في ما بعد، سيأخذه عمه إلى العاصمة ليتلقّى العلاج هناك. وبعدها بفترة قصيرة، تضطر العائلة، بسبب الحرب، إلى السفر إلى السعودية، حيث استقرّت في مدينة الخُبر، وعمل الوالد سائقاً في مدرسة خاصة. وسيرافق الفتى خاله الذي يعمل في إحدى المكتبات، ليتعرّف إلى عالم الكتب والمجلات التي يتذكّر منها "العربي" و"المعرفة". يعلّق: "كنت قارئاً صغيراً لـ"روز اليوسف" وجريدة "القبس" الكويتية، وكان على مكتب خالي دائماً ديوان أبي الطيب المتنبّي بشرح العكبري، فحفظت أجزاءً منه في صغري. أما القرآن فقد أتممتُ حفظه في الخامسة عشرة".
بدأ ديريه الكتابة في سن مبكرة، وكانت بدايته مع الكتابة الساخرة في الإذاعة المدرسية أولاً، ومن ثم أخذ يكتب القصص والمقالات في الصحف والمجلات المحلية، كما عمل في تغطية الأحداث الرياضية. وفي تلك الفترة، شرع في إعادة تشكيل ذاكرته الأفريقية من خلال القراءة لكتّاب أفريقيا، ليغرم بكتابات مواطنه، الروائي الصومالي نور الدين فارح، صاحب ثلاثية "دماء في الشمس"، الذي حقق شهرة عالمية. وسيبدأ بقراءة روايات الكتّاب الأفارقة، باحثاً فيها عن النكهة الخاصة لهذا الأدب. هكذا قرأ تشينوا تشيبي وصنبين عثمان والطيب صالح. أما كاتبه المفضّل، ألبير كامو، فيرى فيه كاتباً أوروبياً بجذور أفريقية.
بعد الثانوية العامة، انتقل إلى السودان لدراسة الطب، وهو البلد الذي سيُشبع نهمه الأفريقي: "بلد مليء بالسحر والحفاوة والجنون والذكاء المغموس بالنبل". وفي نصوصه التي تحتفي كثيراً بالمدن وأحاديث المطارات، ثمّة ارتدادات كثيرة إلى السودان وأهله.
في كتاباته، يجمع ديريه بين ثقافته العربية والموروث الصومالي المليء "بالغنائية والواقعية السحرية"، كما يصفه، فالصوماليون شعب يتقن السردَ، بالتوازي مع تسمية الإنجليز للصومال بأرض الشعراء. ويعلّق: "نعيش في الصومال على وقع الكلمات والقصائد التي لا تنتهي بانتهاء المناسبات. أحاول تلمّس طريق يقع في المنتصف بين القصيدة والسرد، حالة من غنائية الكلام العادي، في لغة حافلة أصلاً بألوان عديدة من الكتابة. أحاول مثلاً زرع شجرة موز في جوار نخلة وسط الصحراء. حلمي الصغير أن تكون ملامحي ذات رحيل بين نظّارات الطيب صالح وسيجارة ألبير كامو، لا أكثر".
في ختام الحوار، سألناه عن كتابه القادم، أجاب ديريه - المقيم حالياً في عمّان لغايات الاختصاص في الطب - بأنه يضع اللمسات الأخيرة على روايته الأولى التي اشتغل عليها طيلة السنوات الثلاث الأخيرة، وستكون فاتحة لثلاثية بعنوان "جوع الضفاف". العمل، كما يصفه، يتحدث عن الصومال بين زمنين: زمن الطفولة (حيث الحنين وذكريات القبيلة)، وزمن الحرب الأهلية والقتل على الهوية.