في العودة إلى تعريف الموسوعة في العديد من اللغات، نقف عند التوافق على جمعها معرفة موجزة في حقول متعدّدة أو مجال بعينه، وربما يظلّ التساؤل الملحّ عربياً حول افتقادنا لنماذج شاملة منها تنضبط وفق منهجية علمية صارمة، مقابل تطوّرها، سواء في أسلوب تأليفها أو الاختصاص في موضوعها أو بحثها في كلّ جديد، بعد زمن طويل من وضع موسوعات كبرى في ثقافات عدّة.
نقطة أخرى، لا يمكن تجاوزها عند تناول "موسوعة الديار المغربية" التي صدرت حديثاً عن "مكتبة الجامعة الأردنية" لأستاذ التاريخ الأندلسي والباحث الأردني محمد عبده حتاملة (1939)، تتعلّق في جدوى إصدارها ورقياً فحسب، وهي حصيلة عمل دؤوب استمر سبعة أعوام، بينما لا تلبّي هذه المؤلّفات غاية وضعها ما لم تتح منها نسخة إلكترونياً يمكن الوصول إليها بيسر وسهولة.
في ثلاثة مجلّدات تتجاوز الألف ومئتي صفحة، احتوى المؤلَّف معلومات ثرية موثّقة بمراجعها التاريخية القديمة والمعاصرة، مضمّنة بالخرائط والصور التي تعزّز المتن البحثي، لكنها تطرح تساؤلاً آخر عن القارئ المستهدف، الذي يتوق للاطلاع على حواضر المغرب؛ ماضيها وراهنها، مجموعةً بين دفتيْ كتاب، فهي حتماً موجّهة للقراء العاديين الذين تنقصهم معرفة عامة، وإن كانت محيطةً، بتلك البلاد، بينما قد تمنح للباحثين والمتخصّصين خيوطاً في بعض القضايا للتعمق بدراستها لاحقاً، دون أن تعطيهم معرفة متخصّصة بها.
يتتبع هجرات الأندلسيين وتأثيرهم في ميادين مختلفة
في مقدّمة الكتاب، يطرح حتاملة مسائل جديرة بالدرس الأكاديمي حول أصل تسمية المغرب والاختلاف عليها لدى المؤرخين، والتفاعل البشري والحضاري على مدار آلاف السنين في الجغرافيا الممتدّة من غربي مصر حتى ضفاف المحيط الأطلسي، وكيفية تقسيمها منذ الفينيقيين مروراً بالرومان والبيزنطيين بعد انشقاق الإمبراطورية، ووصولاً إلى العرب المسلمين في مراحل حكمهم المختلفة التي انتهت باستعمارها أوروبياً.
تغيب عن المقدمة التي تحتوي مختصراً تاريخياً مفيداً عن المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، المنهجية الذي اختارها الباحث لوضع كتابه، وكيفية انتقاء المدن والبلدات في الكتاب، إن كانت وفق معايير ترتبط بحجمها الديمغرافي أو مكانتها التاريخية أو لعوامل أخرى، وعددها في كلّ بلدٍ من البلدان الخمسة، ومجموعها.
يلفت حتاملة إلى ارتباط مصطلح "المغرب العربي" عند المؤرخين والجغرافيين العرب بالأوضاع السياسية أحياناً والأوضاع الإدارية في أحيان أخرى، موضحاً أن الاصطخري ربطه بالثانية، فيما اعتد ابن حوقل بالحواجز الطبيعية، واستند المراكشي في تعريفه إلى الجانب البشري، إذ اعتبر المناطق التي وقعت تحت سيطرة المرابطين والموحدين هي ما يعرف بالمغرب، أما ابن سعيد المغربي، صاحب كتاب المُغرب في حلي المعرب، فقد اعتبر أن مصر أول بلاد المغرب والشام أول بلاد المشرق المغربي، والمغرب عند ابن خلدون هي المناطق التي سكنها البربر وتمتدّ من طرابلس إلى المحيط الأطلسي.
الموسوعة التي أتت مرتبّة على حروف الهجاء، اعتمدت عشرات المصادر العربية والأجنبية المتنوّعة، ومن أبرزها "فتوح أفريقيا والأندلس" لابن عبد الحكم، و"تاريخ المغرب العربي في العصر الوسيط" للسان الدين ابن الخطيب، و"المغرب في عهد الدولة السعدية" لكريم عبد الكريم، و"معلمة المغرب" لعائشة البلغيتي العلوي، وغيرها الكثير من معاجم البلدان التي وضعها باحثون معاصرون لكلّ منطقة أو بلد في المغرب.
إلى جانب كتاب "أفريقيا" لمارمول كاريخال، و"من داخل معسكرات الجهاد في ليبيا" لجورج ريمون، و"ثلاث سنوات في شمال غربي أفريقيا" لهبنريش فون مالستان، وتاريخ أفريقيا في العهد الحفصي" لروبار برنشفيك، و"موجز تاريخ سلا" لكينيث براون، و"التعرّف على المغرب" لشارل دوفوكو، و"تاريخ جيجلي" لشارل فيرو، و"تاريخ ليبيا من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1969" لنيكولاي إيليتش بروشين.
يهتمّ صاحب كتاب "موسوعة الديار الأندلسية" (1999)، بتثبيت لفظ كل مدينة كما ينطقه أهلها، باحثاً في أصل تسميته، واختلافه بين اللهجات، فيذكر أن مدينة آزرو أو أزرو أو آصرو المغربية التي تبعد عن فاس حوالي 89 كلم، يعني اسمها الصخرة بالأمازيغية لوجود صخرة كبيرة على بابها، ومدينة وجزيرة أرشقول الجزائرية التي ورد اسمها في المصادر التاريخية بأكثر من لفظ، فهي أرشجول في كتاب "الاستبصار"، وأرشكول عند الوزان وابن حوقل، وأرجكون عند آخرين.
تركّز الموسوعة على تاريخ مقاومة مدن المغرب للاستعمار
ويركّز حتاملة على تاريخ مقاومة المدن للاستعمار البرتغالي والفرنسي والإيطالي والإسباني، مبيّناً موقعها في سياق الثورات التي قامت في المغرب الكبير، فيورد كيف تعرّضت بلدة الأبرق الليبية للاحتلال أول مرة عام 1913، ثم إعادة احتلالها عام 1931، حيث اتخذها الإيطاليون لمهاجمة الثوار الليبيين، والدور الذي لعبته مدينة أزغنان في الريف المغربي في مواجهة الاحتلال الإسباني بقيادة محمد أمزيان، وكيف أعلن سكّان مدينة الأغواط الجزائرية النفير العام ضدّ الفرنسيين، ومنهم المجاهد موسى بن حسن، إلى جانب وقوفهم إلى جانب الأمير عبد القادر ومبايعتهم له عام 1838.
وكذلك حديثه عن المقاومة الشديدة التي لقيها الاستعمار الفرنسي عند دخوله مدينة بنزرت التونسية عام 1881، حيث قدّمت آلاف الشهداء حتى استقلال البلاد، ومدينة أصيلة التي استطاعت التحرّر من البرتغاليين سنة 1589 على يد أحمد المنصور السعدي، ثم سقطت تحت الحكم الإسباني لتتحرّر منه عام 1691، لتخضع مجدّداً تحت احتلال الإسبان بعد مواجهات شرسة مع قائدها الريسوني عام 1924.
لا يغفل صاحب كتاب "نظرة المؤلّفين الإسبان في القرن التاسع عشر نحو الحكم العربي الإسلامي في الأندلس" (1969)، هجرات الأندلسيين إلى مدن المغرب بعد قسرهم على الخروج من الأندلس، وتأثيرهم الواسع في ميادين مختلفة، فيشير إلى استقبال مدينة أريانة التونسية لكثير منهم طوّروا الزراعة فيها وكذلك صناعة العطورات وتقطير ماء الورد.
وفي مدينة بجاية الجزائرية، يبيّن المؤلّف أنها تعدّ دار هجرة العلماء بسبب استقبالها موجتين؛ الأولى تمثّلت بنزوح رجال الفكر والأدب من مدينة قلعة بني حماد، والثانية بقدوم علماء أندلسيين، بينما يشكّل مهاجرو الأندلس حوالي 80% من سكّان مدينة أصيلة المغربية وجلّهم أتوا من مدن تقع في البرتغال اليوم، مثل لشبونة وقصر السال وشنترين، ونقلوا معهم نمط عمارتهم الذي يهمين على المدينة.
يتتبع أيضاً أبرز أعلام المغرب ومؤلفاتهم والظروف التي عاشوها، فيلفت إلى أن محمد المختار السوسي وضع كتابه "معتقل الصحراء" أثناء مدة حبسه على يد الاستعمار الفرنسي في سجن أغبالو نكردوس الذي زجّ فيه أعداداً كبيرة من رجالات الحركة الوطنية، أو في ذكره الشيخ محمد السنوسي بن صالح (1871 – 1943)، الذي هاجر إلى الأردن بعد احتلال مدينته مسلاتة في ليبيا عام 1913، حيث تولّى القضاء في مدينة السلط وعاش فيها حتى رحيله.
يتناول صاحب كتاب "إيبيريا قبل مجيء العرب المسلمين" (1996)، جوانب حيوية من تاريخ المدن التي يوثّقها، كالصراعات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها طوال التاريخ الحديث، والتطوّر الحضري فيها حيث تراجعت كثير منها، وتقدّمت أخرى لعوامل عديدة يستعرضها في كتابه، ويفصّل التركيبة السكانية وأسماء أبرز القبائل التي تسكنها، ووصف الرحالة الأوروبيين لها، والأوضاع الاقتصادية فيها، ومعالمها الأثرية من حقب مختلفة. كما يرصد حتاملة حضور الزوايا الصوفية ومشايخها الذين لعبوا أدواراً مهمة في الحرب والسلم، ويستعرض معظم الكوارث الطبيعة من زلازل وفيضانات وأوبئة تعرّضت لها هذه المدن، مدعماً كتابه بمئات الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود والخرائط؛ القديم منها والحديث.