في كلّ يوم، بعد قيلولةِ الظهيرة، يكرّرُ العملية ذاتها. يزيح جانباً المائدة الصغيرة القائمة في منتصف غرفة الجلوس، يرفع السجادة، يستلقي أرضاً تحتها، منكفئاً، مائلاً بأذنه على جذر متجعّد. مفكرته مفتوحة على الأرض بجوارهِ مع قلم مبري جيداً. يحبس أنفاسه لتكون أقل تهدجاً، ثم يبدأ مباشرة.
تدوين أول: بكاء. ذلك هو السبب في أن الأرضية رطبة. يتنهد بعمق، بدرجة عادية، تدوم هنيهة، مع تنهيدة تتكرر كل ثلاث ثوان بالضبط. يتذوق دمعة. عادية بالنسبة لحموضة عالية، إحساس ناعم، ضرب عاطفي. ينظر إلى ملحوظاته، تذكره هذه الصفات بشيء ما. ها قد وجده. مدونتان موضوعهما واحد قبل ثلاثين يوماً. إنهما عن صورة شخصية لمومياء الفيّوم.
صورة سيدة شابة دُفنت في مقبرة الملكة آرسينوي. تقول الشائعات إنها أحبت عالم الآثار الذي عثر عليها، ومنذ ذلك الوقت وهي تبكي، لأنها ليست أكثر من ذاكرة الماضي المحنطة. لقد عزلها عن مجاله السمعي، فلديه أشياء يفعلها أفضل من إشغال نفسه بحب غير متبادل.
في مكانه ذاك، ومع الوقت، أصبح حتى سمعه أفضل. إنه يحيّي الديدان والخلندات وجذور نبتة خشخاش وشجرة سرو، إنه يحاكي فحيح أفعى مجلجلة، وأحلام دب هادئة، وفي صوان أذنه تتنزه نملة. وتدغدغ بزرة يتيمة واحدة، على توقع أن تزهر، وجدانه الخادر.
الآن هو مستعدٌ لملاقاةِ أصواتٍ شخصية أكثر، أحاسيس حميمة أكثر، إنه يغمض عينيه كي يركّز بسهولة أكثر. يخضّ جسده كله جيشانُ غياب الشمس ذاك، يتذكر أن ليس له لون واحدٌ فقط، إنه مزيج من البرتقالي والأصفر والأبيض. كان يتلألأ في مرآة البحر. نظر إليه وجهاً لوجه، أمسك بندقيته وأطلق الرصاص على القلب تماماً. وصل الدمُ إلى القاع. إن توتر الذاكرة ينعشه، فيستمر.
"انتظرْ"، يصيح عالياً. غصنٌ ذاك الذي سقط، توقعٌ ذاك الذي خاب، أكذوبة تلك التي تغنت بالحقيقة. كيف تم إخراس كلّ هذا ثم عاد ليتحدث إليه مرة أخرى؟ تهبُّ ريحٌ لكي تجفّف دموعُ الخريف أوراقَ الشجر.
ليلة صيفية. المقاعدُ في غرفة النوم تغمغم. لقد رتبت التفاصيل الأخيرة. المخدة كتومة، لا تتدخل، إنها تزن آخر أنفاس الضحية المحتملة قبل الموت فحسب. وبينما هو تثقل موازينه أكثر فأكثر، يتفق الشركاء، ويخنقونه. ثمة أنين مكروب، ثم قاتلٌ صامت مثل أوكسيد كاربون مهلك. لا صوت في صباح اليوم التالي، لا علامة واحدة على المخدة. اشتباهٌ بعرق فقط مثل دليل على وجود. على جريمة. غير محدّدة مثل كآبة.
أرضية الغرفة، المتعرقة أيضاً، تسبب له الدوار. تمتصه ببطء. تهضمه. الجذرُ الذي مال عليه بأذنه تتعلق شباكُهُ برقبته، تلتفّ حول يديه، تقيّد كلتا قدميه بإحكام. تخونه أعصابه. عيناه مغمضتان. ابتسامة مرّة ترتسم على شفتيه. ينقلب على ظهره. لا يمكن للمرء أن يسمع سوى صوت مجرفة تحفر، من دون أن تصاب بالكلل، لزراعة الأبصال في وقتها. الأرض تتحرك. تبتلعه في لمح البصر.
في كل يوم، بعد قيلولة الظهيرة، تحت السجادة، في منتصف غرفة الجلوس، تصل تمثيلية إلى النهاية، ولا تستقر واحدة، بينما تعود العزلة المعاد تدويرها إلى الظهور.
* Efthymia Giosa كاتبة قصة من الجيل الجديد من الكتّاب في اليونان، تعيش وتعمل في العاصمة أثينا. تمزج في كتابتها بين التاريخ والحساسية المعاصرة والتفاصيل اليومية، كما تغوص بعض قصصها ومقالاتها الأخيرة في الأزمة الاقتصادية التي ستعرض لها بلدها. صدر لها رواية ومجموعة قصصية وتعمل الآن على كتابها القصصي الثالث.
** ترجمة: محمد الأسعد