كانت تجربة المفكّر الاقتصادي المصري، سمير أمين (1931 – 2018)، مهيّأةً ليُكتب عنها الكثير. لم يكن ذلك عبر ما يكتبه الآخرون عنه، وعن مواقفه ونظرياته، بل أيضاً عبر ما يرويه هو شخصياً. ففي أربعة إصدارات حاول أمين تلخيص ما عاشه في كواليس كبرى المؤسّسات الاقتصادية الدولية ودهاليز السياسة.
صدرت أوّل دفعة من مذكّراته في جزءَين، عن "دار الساقي" بين 2006 و2008، وقد حملت طابعاً سياسياً واضحاً، ثم أضاف إليهما عملَين صدرا عن "دار العين"؛ هما: "حول الناصرية والشيوعية المصرية" (2012)، و"قضايا الشيوعية المصرية" (2014).
ثم جاء الكتيّب الصادر عن "دار العين" أيضاً نهاية 2017 بعنوان "مذكّرات"، في شكل مختارات من العملين الصادرين عن "دار الساقي". هنا، اختار أمين التركيز على تجربة عمله في أربع مؤسّسات دولية اقتصادية؛ هي: "المعهد الأفريقي للتنمية والتخطيط"، و"كوديسيريا"، و"منتدى العالم الثالث"، و"المنتدى العالمي للبدائل".
حين سرد المفكّر الاقتصادي المصري تجربة العمل في "المعهد الأفريقي للتخطيط والتنمية" والذي شارك في تأسيسه عام 1962؛ حيثُ شغل مدير للمعهد لمدّة عشر سنوات بين 1970 و1980، بدا كمن اتّخذ زاوية المراقب.
اتّخذ تلك الزاوية ليضيء على الكثير من النوايا والمماحكات السياسية التي تفرضها قوى دولية على وضع وشكل الاقتصاد في العالم بأسره. وبالأخص تدخّلات أميركا ومخابراتها في الأجندة التي تعمل عليها "الأمم المتّحدة"، وكل المؤسّسات والمعاهد ومراكز الأبحاث الاقتصادية المتفرّعة عنها.
أجواء عمل يُشبّهها أمين بأجواء الحرب الباردة وصراع الخصوم. يقول: "الدبلوماسية الأمريكية تحاول بشتى الطرق إخضاع نظام الأمم المتّحدة لأهدافها الخاصة، لذلك كان علينا، لنقوّي حائط المقاومة أمام هجوم العدو، أن نحقّق تحالفات فعّالة مع جميع أولئك الذين تتأثّر مصالحهم من الهيمنة الأميركية".
خلال حديثه عن فترة عمله في "المعهد الأفريقي للتنمية والتخطيط" التابع لـ "الأمم المتّحدة"، يسخر ممّن ينظرون إلى هذه المنظّمات باعتبارها مجتمعاً للخبراء وضعه البعض لخدمة الآخرين. كما يسخر من المسمّيات السائدة في الخطابات الدولية كـ" القرية العالمية" و"العولمة"، لأنها مسمّيات تتجاهل الاستقطاب الذي يفرضه النظام العالمي على كل شيء.
في الأثناء، يقترح صاحب "أزمة المجتمع العربي" عدّة حلول لتتخفّف "الأمم المتّحدة" من سطوة الاستقطابات وتعمل وفق الأهداف التي أًنشئت من أجلها، وعلى رأسها: إعادة تنظيم العالم بنظرة إنسانية.
أحد تلك الحلول التي اقترحها المؤلّف هو العمل على توفير إطار "فوق أممي" تعمل من خلاله "الأمم المتّحدة"، لكنه يستدرك بأن هذا الحل لن يتحقّق ولو بشكل جنيني حتى تتخلّص الهيئة الدولية من العقبة الرئيسية المتمثّلة في سيطرة الولايات المتّحدة الأميركية عليها.
يقول: "المخابرات المركزية الأميركية لديها عملاء في جميع إدارات الأمم المتّحدة، وفي بعثات البلدان التي تعمل بينها. وهؤلاء العملاء مكلّفون بإرسال التقارير بشكل منتظم ومتواتر".
تحدّث أمين أيضاً عن تأسيس "المجلس الأفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية" (كوديسريا)، والعمل ضمن مشروع "منتدى العالم الثالث". بدت المؤسّستان كبدايات لمشاريع ناجحة، ليس على مستوى العمل النظري فحسب، بل على مستوى المحاولات العملية للإفلات من السيطرة والمال الأميركي أيضاً.
وعن تجربة "المنتدى العالمي للبدائل"، الذي تأسّس في القاهرة عام 1997 والذي ترأّسه، يشير إلى أنه وضع ضمن أهدافه الرئيسية اتفاقاً عامّاً يتمثّل في القول بأن "مشروع واشنطن يسعى لفرض سيطرته على صعيد عالمي، وبالتالي فإن الخصوم الحقيقيّين للمنتدى هم جميع القوى السياسية والفكرية والاجتماعية التي ترضى بالوضع القائم، بينما الحلفاء المحتملون هم جميع القوى المناهظة له".
يتفرّع هذا الحديث إلى رسم صورة عن الصراعات مع المشروع الإمبريالي، وخصوصاً الصراعات من أجل السيطرة على المنصّات الأكاديمية ومراكز صنع القرار.
يُعرّج سمير أمين أيضاً على ما يُسمّيه "خيانة المثقّفين"؛ حيث يُبيّن كيف أن "الأغلبية الساحقة من الخبراء، بما في ذلك الجامعيّون، لم يعودوا يبحثون عن بديل للنظام الحالي".