تفرّد النظام المصري عن باقي حكومات العالم الغني والفقير بفرض إجراءات تقشفية، في ظل تداعيات أزمة كورونا على معيشة المواطن وحالته الاقتصادية والصحية.
فرفعت وزارة النقل أسعار تذاكر المترو بمقدار 40% إلى 66% دفعة واحدة. فزاد سعر تذكرة المترو من 3 جنيهات إلى 5 جنيهات لكل 9 محطات، ومن 5 جنيهات إلى 7 جنيهات لكل 16 محطة، ومن 7 جنيهات إلى 10 جنيهات للباقي.
وخفّضت وزارة التموين وزن رغيف الخبز المدعم من 110 غرامات إلى 90 غراما للرغيف. وهي زيادة غير مباشرة في سعر الخبز. بمعنى أن المواطن كان يدفع 25 قرشاً للحصول على حصته التي تبلغ خمسة أرغفة وتزن 550 غراماً، ولكن بعد الزيادة الجديدة سوف يحصل على نفس عدد الأرغفة وبنفس السعر، ولكن الوزن سينخفض إلى 450 غراماً. وبذلك خسر المواطن رغيفا كاملا من حصته، بما يوازي 18%.
وهي حيلة تنطوي على خداع المواطن الذي يعتبر رغيف الخبز، أو العيش كما يسمى في مصر ويعني الحياة، خطا أحمر، يسمح بأن تعضّ قلبه ولا تقضم منه قضمة. وهي نسبة ليست قليلة، بل كبيرة عند مواطن يعتمد هو وأطفاله على الخبز في تلبية حاجاته الغذائية من السعرات الحرارية والبروتين ويشبع البطن ويسد الجوع.
توقيت خاطئ
زيادة أسعار السلع في ظل معاناة المصريين وخسارة عدد كبير منهم وظائفهم وأشغالهم وانضمام الآلاف منهم لطابور البطالة لا مبرر له. لا سيما أن بندا واحدا من بنود الفساد الذي قدّره الجهاز المركزي للمحاسبات في سنة 2015 بـ 600 مليار جنيه، يمكن أن يعوض الزيادة في أسعار السلع.
اللافت أن قرار الحكومة برفع أسعار المواصلات والسلع الغذائية صدر بالتزامن، في نفس اليوم، مع إعلان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي أيضا عن ارتفاع معدل البطالة إلى 9.6% مقارنة بـ7.5% في نفس الفترة العام الماضي. وهي سابقة سياسية ليس له مثيل في العالم، وما كان القرار ليصدر من سياسي في دولة مثل مصر إلا بالقمع وتجريم التظاهر والترهيب والإخفاء القسري والقتل.
وادعى الجهاز الحكومي أن سبب ارتفاع البطالة هو جائحة فيروس كورونا المستجد والإجراءات الاحترازية التي تسببت في وقف المواصلات خلال الليل وإغلاق المحلات. ولكن لا يمكن غض الطرف كذلك عن القرارات الاقتصادية الخاطئة التي طبقت في الشهور الماضية، مثل قرار وقف تراخيص البناء لمدة ستة أشهر، وهو قرار غير اقتصادي بالمرة.
وقد طالب الجنرال السيسي بإلقاء القبض على مخالفي البناء ولم يكتف بتحرير مخالفات ضدهم، ما أدى إلى شلل قطاع المقاولات الحيوي والذي يساهم في 18% من الناتج القومي، ومصدر دخل لملايين الأسر، حيث يعمل فيه نحو 12 مليون مصري، فضلًا عن حوالي 20 ألف شركة، وتجار مواد البناء، بحسب تصريحات صحافية، في إبريل/نيسان الماضي، لرئيس الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء محمد سامي، وعمال مصانع الطوب المنتشرة في ريف الجمهورية.
بدليل أن الريف لم يسلم من ارتفاع معدلات البطالة التي وصلت فيه إلى 7.4% من إجمالي قوة العمل في الربع الثاني من هذا العام، في مقابل 5.1% في الربع الأول من عام 2020. بالإضافة طبعًا إلى الإجراءات الاحترازية التي رفعت معدلات البطالة في المدن إلى 12.5% مقابل 9.3% قبل الأزمة.
الفقراء يدعمون الحكومة
خالف النظام العرف السياسي في مصر، والذي جرى على رفع أسعار السلع والخدمات بالتزامن مع زيادة رمزية في الرواتب تكون في بداية السنة المالية الجديدة والتي تبدأ في الأول من شهر يوليو/تموز من كل عام.
كما رفع الأسعار بالتزامن مع توقيع السيسي على قانون لاستقطاع نسبة 1% من دخل العاملين، شهريًا، ولمدة 12 شهرًا، ونسبة 0.5% من صافي دخل أصحاب المعاشات، للمساهمة التكافلية في مواجهة التداعيات الاقتصادية الناتجة عن انتشار الأوبئة.
وفي مقابل الاستقطاع من دخل العاملين البسطاء وأصحاب المعاشات الفقراء والمرضى الذين لا يكفي دخلهم لتغطية تكاليف العلاج اليومية، زادت الحكومة اعتمادات باب المصروفات الذي تخصص موارده لصالح ميزانيات الأمن القومي، والقضاء، ومجلس النواب، والجهاز المركزي للمحاسبات في الموازنة العامة للدولة من 74 مليار جنيه في موازنة العام المالي الماضي، إلى 105 مليارات جنيه في موازنة العام المالي الجديد 2020/2021، وبذلك يكفل الموظفون الفقراء وأصحاب المعاشات المرضى المقتدرين من الضباط، والقضاة، وأعضاء البرلمان!
الحماية الاجتماعية
قرار زيادة الأسعار يتنافى مع تعهد الحكومة لصندوق النقد بتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية للتخفيف على المواطن من تداعيات الكورونا المستجد، في مقابل الحصول على قرض سريع بقيمة 5.2 مليارات دولار، بالإضافة إلى قرض سابق بقيمة 2.2 مليار حصلت عليه بالفعل في مايو/أيار الماضي.
ففي ظل المحاباة والدلال والإقراض السخي الذي يحظى به النظام المصري من الصندوق من دون غيره من حكومات المنطقة، كان الأولى تأجيل رفع الأسعار ريثما ينتعش السوق الداخلي ويتعافى الكساد وينصلح الحال الواقف منذ نوفمبر 2016، وهو تاريخ الحصول على القرض المشؤوم وتعويم الجنيه، وترميم شعبية الجنرال التي هوت إلى ما دون شعبية الرئيس المخلوع حسني مبارك، حتى صار الناس يترحمون على أيامه السوداء بسبب الضنك الذي أحل بهم.
رفع الأسعار يفاقم معاناة الفقراء الذين وصلت نسبتهم إلى 32%، وفق آخر تقدير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في منتصف السنة الماضية، في مقابل 27.8% في عام 2015. وقد توقف بعده عن الإعلان عن معدلات الفقر بسبب إحراج السيسي الذي لا يكف عن الإشادة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يطبقه ولا يرى ثماره إلا هو ومنافقوه.
ذلك أن البنك الدولي كان قد أعلن، في مايو/أيار من العام الماضي، عن أن 60% من المصريين إما فقراء أو عرضة للفقر. والمترو والخبز المدعم لا يضطر إليهما إلا طبقة الموظفين الغلابة وعمال اليومية ومحدودو الدخل. أما فئة رجال الأعمال المستفيدين من مشاريع القوات المسلحة والقضاة والضباط فلا يتأثرون بقرارات زيادة الأسعار.
البنك الدولي دق ناقوس الخطر في منتصف العام الماضي وحذّر من تنامي عدم المساواة في مصر. واعترفت وزيرة التخطيط المصرية، هالة السعيد، في مارس/آذار الماضي، بارتفاع معدلات الفقر بسبب تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، ما شكل عبئًا على المجتمع خلال الفترة بين عامي 2016 و2018، ولكن مسامع القوم مشغولة عن تحذير البنك الدولي بالاستماع لإلهامات الجنرال وطبيب الفلاسفة الذي حذرهم من سماع كلام أحد غيره.
القديم والجديد
في موقف عبثي كاشف عن حال الإدارة بالفهلوة الذي تعيشه مصر، يأمر الجنرال وزير النقل كامل الوزير بزيادة الأسعار بطريقة علوية مجافية للياقة ويقول "متقوليش زيادة 5% ولا 7% ولا حتى 10%، اعمل المظبوط يا كامل، أنا اللي بقول، كل حاجة بثمنها، أو نقدم الدعم يعني اللي نقدر نتحمله"، فيرد الوزير "في كل ما هو جديد زي ما حضرتك أمرت يا فندم"، ويعقَّب الجنرال: "جديد وقديم يا كامل".
يبرر الجنرال زيادة الأسعار بسبب زيادة تكلفة الإنشاءات الجديدة. ومن في مصر أصبح لا يشك، بعد فضيحة القصور الرئاسية التي كشفها المقاول محمد علي، في ذمم جنرالات الهيئة الهندسية للقوات المسلحة القائمة على التنفيذ.
كما أن الوزير لفت إلى عدم معقولية زيادة أسعار تذاكر الخطوط القديمة، وإنما قصرها على الجديد فقط، كما أمر هو لا غيره، ولكنه يرد بطريقة تفسر سبب معاناة المصريين من قرارات ارتجالية ولحظية غير مدروسة وبالتالي غير معقولة، جديد وقديم!
ولا يملك الجنرال الوزير ولا غيره أن يناقش الجنرال الرئيس، رغم أن فيهم رئيس جمهورية سابقا ورئيس مجلس النواب، وكل منهم يفزع إذا نظر إليه الجنرال وكأن أرواحهم بيديه. والمؤسف أن الجنرال ينتشي بهذه الملهاة.
وهل يعقل أن تخفض حكومات العالم أسعار المواصلات والكهرباء وأسعار السولار والبنزين، بسبب انخفاض أسعار البترول من 80 دولارا للبرميل إلى النصف، ومرة أخرى للتخفيف عن المواطن بسبب تداعيات كورونا، وفي مصر لا يكتفي الجنرال بتثبيت الأسعار بل زيادتها؟!
مستقبل الدعم
مستقبل الدعم في مصر لا يبشر، وهذه الزيادة في الأسعار ربما لن تكون الأخيرة. فمنذ جاء الجنرال إلى الحكم قام بتخفيض وزن خبز الغلابة ثلاث مرات حتى وصل إلى 90 غراما بعد أن كان 130 غراما حتى 2013. وخفّض عدد المستفيدين من دعم الخبز بمقدار 2 مليون مواطن، وحذف 10 ملايين من منظومة السلع التموينية.
وهذا العام، خفض فاتورة دعم الخبز في الموازنة العامة للدولة من 52 مليار جنيه العام الماضي، إلى 47 مليارا، وكان من المتوقع زيادتها في الموازنة الجديدة بسبب كورونا وزيادة المستفيدين. وضاعف أسعار أنبوبة البوتاغاز إلى 8 أضعاف سعرها في 2013، والسولار والبنزين إلى 5 أضعاف ما كان عليه، والحبل على الجرار.