07 نوفمبر 2024
مسقط نجحت كعادتها
لكن نجاحها، هذه المرة، كان فوق العادة العربية، وبامتيازٍ عُمانيٍّ مشهود، وبمرتبة شرفٍ تليق بتاريخ السلطنة العريق، وحضارتها التي تناوش المستقبل.
كتبت مقالتي في "العربي الجديد" يوم الخميس الماضي، قبل افتتاح النسخة الثانية والعشرين لمعرض مسقط الدولي للكتاب بيوم، متمنية في ختامها أن أجد في متن المعرض، وعلى هامشه أيضاً، ما يعزّز من تفاؤلي تجاه مستقبل الكتب ومعارضها، ويغيّر بعض القناعات السلبية على صعيد الكتابة والكتاب والقراءة والطباعة والنشر وما حولها. وتوقعت أن هذا سيحدث، لسبب شخصي بسيط، هو أن مسقط عوّدتني دائماً على المفاجآت الإيجابية السارّة في كل مرة أزورها فيها. فهي تعمل دائما على مواجهة كل الأسئلة والتحدّيات المستفزة حولها، بهدوءٍ يليق بجمالها، وبصمتٍ يناسب شخصيتها، وبتواضعٍ نابع من ثقتها بنفسها.. وبإبداعٍ لا يشبه سواها.
وأعود الآن، وقبل ختام المعرض، لأقرّر أن ما توقعته حدث، ولكن بشكل أكبر وأوسع وأجمل مما توقعت. وفي شواهد حفل الافتتاح، وما تلاها من أيام، دلائل ذلك النجاح الكبير الذي جسّد فيه راعي المعرض، وزير الإعلام عبد المنعم الحسني، المعنى الحقيقي للرعاية، بوجوده المستمر وإشرافه على كل الشوارد والتفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة فيه، وحفاوته الشخصية البالغة بكل ضيوف المعرض، ومروره على الناشرين مستفسراً منهم عن احتياجاتهم واقتراحاتهم وشكاواهم إن وجدت، وحرصه على حضور جوانب من معظم الفعاليات التي أقيمت بين أروقة المعرض، على الرغم من أنها تجاوزت السبعين فعالية تقريبا، وتشجيعه الشباب العماني العامل في المعرض المشارك فيه. وليس هذا كله حسب، ولكن، أولاً وأساساً، بإيمان هذا الوزير غير التقليدي البادي بالدور الحقيقي لفكرة معرض الكتاب، في عالم التحولات المعرفية، حراً من كل قيد أو رقابة، كما في معارض أخرى.
وفي إجاباته العفوية على أسئلة الصحافيين الذين انبهروا، باعتبارهم عرباً معتادين على فكرة الرقابة والمنع، من اختفاء الرقيب تماماً من مشهد الثقافة في عُمان، شرح الحسني منطقه الواعي ببساطة؛ "فكرة منع أو مراقبة كتابٍ في عالم التحولات، في عالم المعرفة، أصبح كأنك تحفر في ماء، فمن خلال هاتفٍ نقال على سبيل المثال، يمكن أن يجد القارئ ملايين العناوين التي في استطاعته أن يقرأها ويطبعها، فماذا نفعل من خلال الرقابة؟ نحن نراهن على وعي المجتمع. وربما في السنوات الماضية، طلب البعض رفع كتب معينة من المعرض، لكننا رأينا أن الاحتكام يجب أن يكون للسلطة القضائية المستقلة التي بإمكان المعترض على كتابٍ ما اللجوء إليها، وسنصادر الكتاب في حالٍ واحدٍ، هو صدور حكم برفع الكتاب".
هكذا، يبدو حل إشكالية الرقابة ميسرا وراقيا وبسيطا، وحريٌّ بكل المعارض العربية الأخرى أن تستنسخ التجربة العمانية، وتطبقها وفقا لظروف الزمن الراهن ومعطياته الثقافية والتكنولوجية أيضا.
ولعل في هذه الرؤية المتقدمة للتعامل مع الكتاب أحد أسرار نجاح معرض مسقط ذلك النجاح الباهر، والذي تجلى في حركةٍ واسعةٍ بين أروقته ما بين بيع للكتب بشكلٍ أسعد أغلب الناشرين الذين التقيتهم، وفعاليات متنوعة وكثيرة، تناسب كل الشرائح المفترضة لرواد المعرض، بمعدل سبع فعاليات في اليوم، تعاون على إقامتها وتنظيمها فريق عمل المعرض، بقيادة مديره يوسف البلوشي، مع جهات ومؤسسات ومبادرات أهلية وحكومية كثيرة.
وإذا كانت بعض معارض الكتب العربية قد تفوّقت في جوانب معينة على معارض أخرى، لا أظن أن هناك من ينافس معرض مسقط للكتاب في نبل أهله الذي كان يفيض عن حوافّ القلب، كأفلاج عُمان السادرة في جبروت الجغرافيا وعراقة التاريخ لتروي الشغاف.