مسلكيات التوحش وتهديم العمران
لا يبدو أنه سوف يكون هناك أي نوع من الحدود أو الضفاف، للأفعال "الداعشية" المتواترة، والموغلة في السلوك الإجرامي الأكثر فاشية، في زمن قياسي انحطت، وتنحط، فيه قوى الإجرام الديني والسياسي السلطوي، على حد سواء، وفي عصر الصورة الأكثر وضوحاً وإيضاحاً لما يجري في عالمنا المعاصر. حيث تذهب قوى الماضي، الأكثر تخلفاً، في اتجاهات أكثر انحطاطية تجاه البشر وحضارتهم، والحجر وما سجله البشر من إرث وتراث الأولين، والمجتمعات والدول، وكل القيم الإنسانية المشتركة.
مثل هذا العداء المضاعف والمضاف للحضارات الإنسانية، ولرموزها الدالة، ومحاولات تدميرها وإعادة طمرها تحت الأرض، أو تفتيتها وتفكيكها مرة أخرى، لن يستطيع طمس معالم تلك الحضارات التي سجلت للبشرية أرقى وأنقى إنجازاتها وإبداعاتها العظيمة، وتاريخها الحي الذي كان يتوجه إلى الأحياء من البشر، كما إلى جانب تلك البدع والأعاجيب الوحشية التي كانت تتوجه وتخاطب الأموات والأحياء، ممن لا يعتدّون بالعقل وتنويريته وحداثته المستمرة على مر الأزمان والعصور.
من هنا، لا يرقى، ولن يرقى، الفعل الانحطاطي، والخراب "الداعشي" إلى أي مستوى من مستويات بناء مجتمعات البشر والدول، حتى البدائية منها، بل إن تخريب الدول والعبث بها وبمقدراتها وبمجتمعاتها، على ما رأينا في فترة وجيزة، واحدة من آفات "الداعشيين" الذين بمسلكيات التوحش التي رأيناها لا يعدوننا إلا بالخراب، وبإقامة دولة استبدادية قديمة- جديدة على أنقاض الدول القائمة. وفوق هذا وذاك، لا يعدوننا إلا بالقتل وانتهاك الحرمات، وبالسبي واستباحة الأعراض والممتلكات، وبالعبودية لكل أفراد المواطنين، ممن لا يدينون بـ"دينهم"، ولا بـ"إيمانهم"، وإعادة فتح أسواق نخاسة لبيع النساء وشرائها.
بلغ الإجرام "الداعشي" مستويات عليا، وأكثر بكثير من إجرام أنظمة الطغيان والاستبداد، وهي تُمعن في إجرامها وجرائمها المُضافة، حتى بتنا، والحالة هذه؛ في مواجهة استبدادين وطغيانين وإجرامين، يتماثلان في مستوى وإمكانيات سلوكهما وممارساتهما العابثة بوحدة اجتماع الدولة واجتماع الناس، وما يتخطاهما إلى وحدة تنوع الاجتماع الإنساني وتعدده، ومشتركاته، الأكثر قيمة من قيم مسلكيات التوحش والإجرام المضاف.
ومهما يكن التجميل متقنا، ليس هناك من قوة أو إمكانية لمحو البشاعة التي بات يلحقها أمثال أولئك "الدواعش"، وأضرابهم على مستوى الكون، بحق الإنسان والإنسانية، فليس من حق أي مدع، أو مزور، أو من أصابته هستيريا وجنون التدين، أن يقبض روح إنسان، مهما كان معتقده، فالصورة التي رسمها "دواعش" أيامنا السوداء، لمواطني القرى الكردية أو الآشورية أو الأزيدية، أو السريانية، وهم يُقادون بعيداً عن مواطنهم ومساكنهم، تذكّرنا بكل الصور البشعة التي ارتسمت لمواطنين كثر، في بلادنا وفي بلاد أخرى، كل ذنبهم أنهم لا يريدون التماثل، ومن الطبيعي أن لا يتماثلوا، مع قوى لا مثيل لها في الإجرام، والقتل والسبي وبيع النساء وشرائها، والاستيلاء على ممتلكات الغير، وقبض أرواح بريئة؛ وكل هذا باسم تدين زائف، لا يضاهيه ولا يعترف به أي دين.
كل ما في الأمر أن شهوة السلطة، وتحت ذريعة حجج التدين الزائف ومبرراته، لم تبق أي ذرة عقل لدى من فقد الدين والعقل والمنطق والأخلاق والقيم، وأصبح أداة من أدوات ارتكاب المعاصي والكبائر، اشتهاء وابتغاء لسلطة بلا حدود، وبلا ضفاف، لا قيّم لها ولا عليها؛ سلطة لا يُراد أن يكون لها رقيب أو حسيب، سلطة تمتح من استبداد "خليفتها" المطلق و"ملائكته" الذين لا نعرف بأي حق عصمهم ويعصمهم عن الخطأ والخطايا، وهم يقومون بما لا يرضي أحدا بالمطلق، إلا أمثالهم وأضرابهم من مجرمين قتلة.
ليس هناك أكثر بشاعة من القتل والإجرام، والتوحش إزاء كل ما ينتمي إلى حضارتنا الإنسانية المشتركة، والتنادي لحمل معاول هدم العمران والبنيان، وتفتيت وحدة المجتمعات، وتدمير كيانات الدول، حتى ولو كانت بدائية، أو حتى دويلات. لهذا قلنا ونقول إن الصورة "الداعشية"، كما تتبدى اليوم، هي الأكثر تجسيداً لواقع الإبادات والجرائم ضد الإنسانية. فما بين معاول الهدم الداخلية وتلك الخارجية، تتقلب بلادنا، اليوم، على جمر من تحولات تكاد تطيح العقل وتنويريته وحداثته، وقبلا تكاد تطيح؛ وقد أطاحت فعلياً، في كل من العراق وسورية واليمن وليبيا ولبنان، وحدة الدولة والمجتمع، وتنوع مكوناتها وتعدديتها، ونزوعها الديمقراطي الحداثي، ومحاولات تقدمها وسط أشواك الاستبداد السياسي، وجراد الاستبداد الديني، وشرائع يغلب عليها الاحتكام للاعقل، بل لغرائز السلطة البدائية التي تريد كل شيء على حساب كل شيء، حتى ما يتناقض مع مزاعم التسلط الديني وأوهامه.
من هنا، تلك العودة غير المحمودة، لسلطة القبيلة والعشيرة، والزعامات الجهوية والعائلية التي تشكلت منها "طليعة" القوى "الداعشية"، وهي تغزو أراضي الآخرين؛ دولاً وأفراداً وجماعات، تحت رايات "الفتح" الجديد، بل قل التدمير الإجرامي للدولة، وتفتيت مجتمعاتنا وإعادة تخليقها، بل تخليقها كشكل هجين ومشوه، قلّت وتقل نظائره في بلاد الآخرين، فهل هذه هي المهمة "الطليعية" الأولى لقوى التدين السياسوي، وهو يقدم لنا نموذجاً لتدين مغرق في الماضوية والتخلف والنقل غير الأمين للنصوص الدينية، تديّن من سماته الجوهرية هذه "الداعشية التخريبية المعاصرة"، كما أضحت تتبدى في مشروع "الدواعش" ووظيفتهم ودورهم؟
لقد تبدّت الآثار الكارثية لهذا كله، في غياب البُعد الحضاري في النظر إلى الدين، وفي أن الذين يغيّبون هذا البعد ليسوا رواد حضارة، أو حملة قيم، ويكاد يكون لهم "دينهم الخاص"، دين لا علاقة له بأي قيمة دينية أو دنيوية، كل ما في الأمر أن القائمين على سلطة الانحطاط الاستبدادي، الذي بدأنا نخبره، الآن، على امتداد أكثر من دولة، بل وعلى مستوى العالم الذي غزته قواعد الإرهاب، منذ مطالع الألفية الثالثة، ليسوا بصدد تقديم أي نموذج حضاري عن الدين الإسلامي، بقدر ما يحطون من قيم من المفترض أنها تنتمي إلى الفضاء الديني، وإذ بها ليست في هذا الوارد بالمطلق.
من هنا، هذه المحرقة البشرية التي يرتكبها "دواعشيو" عصرنا في زماننا هذا. حين جعلوا ويجعلون من "دولتهم" بديلا للدولة، وللدولة/الأمة تحديدا، ومن مجتمعاتنا وشعوبنا، حقول تجارب لشرائع خاصة، بأفراد لا يفقهون من الشريعة سوى كونها العقاب الذي ينزله بشري ببشري آخر، بديلاً من "عقاب الله في الآخرة"!، وذلك بتبريرات وذرائع ليس من شاهد عقلي عليها، ولا من شواهد فقهية، ولا من أي شاهد؛ سوى شواهد المرض العضال الذي ابتلينا به على أيدي من يريدون ابتزازنا باسم "المقدس الديني"، وجرنا جراً نحو مهاوي وقيعان انحطاط أكثر انحطاطا مما شهدناه حتى الآن، في عصرنا هذا، عصر "الدواعش" والاستلاب الاغترابي والانحطاط الاستبدادي المتلون بسياسات القمع والإرهاب، سياسات اللاسياسة، البعيدة كل البُعد عن أي مُشترك من مُشتركات القيم والأمم والأخلاقيات والمبادئ التي نثرتها رياح "الدواعش"، وذهبت بها نحو قيعان انحطاط أعمق من انحطاطات أنظمة الاستبداد السياسي القوموي والإسلاموي.