27 سبتمبر 2018
مصالحة مع "الفساد" في تونس
أقرّ مجلس نواب الشعب في تونس قانون المصالحة، والذي عنى تصالح الدولة مع متهمين بالفساد في فترة حكم بن علي. وكان حدث الأمر ذاته في مصر، إذ تمت المصالحة مع رموز متهمة بالفساد، وكان بعضها هارباً خارج البلاد. يبدو الأمر هنا وكأنه يتعلق بالفساد، حيث نهب هؤلاء ثروة البلد بطرق غير مشروعة، وأصبح من الضروري التصالح معهم بشكل ما. في مصر جرى "فرض" مبالغ على هؤلاء دفعها لإتمام المصالحة. وفي مصر لم يثرْ الأمر ردود أفعال حقيقية. أما في تونس فقد اعترض كثيرون من "نواب الشعب"، وتصدت الجبهة الشعبية لهذا الإقرار، كما جرت تظاهرات ضد عملية الإقرار هذه.
هل كان الأمر مفاجئاً؟ ربما لمن توهّم أن الثورة تقدمت خطوات، بحيث يمكن محاسبة "الفاسدين"، لهذا عمّ الفرح تونس، حينما اعتقلت الحكومة، برئاسة يوسف الشاهد، عددا من هؤلاء، وكأن الضغط قد نجح في أن "تضطر" الحكومة إلى اعتقال هؤلاء لمحاسبتهم. لكن وجدنا أن مجلس نواب الشعب يقرّ قانون المصالحة، وتنتهي اتهامات الفساد، ويُغلق الملفّ.
ربما المفاجئ أن يعتقد أحد، من اليسار أو من أي تيار آخر، أن تقوم الحكومة بغير الذي قامت به عبر المجلس. وأن تكون معنيةً حقيقة، حتى وإنْ تحت الضغط في المجلس والصحافة، بمحاسبة هؤلاء الذين جرى اعتبارهم فاسدين، فهؤلاء ليسوا أفراداً، بل هم جزء من طبقة، ذلك
أن جلّ النشاط الرأسمالي يمكن أن يوضع في خانة الفساد، فهذا طابعه في الوقت الراهن، وهذا طابع الرأسمالية في الوقت الراهن. بالتالي، هؤلاء الذين كانوا "الأساس الاقتصادي" لنظام بن علي هم جزء من الرأسمالية التي حكمت تونس منذ عقود. وإذا كانت بعض فئات الرأسمالية حاولت استغلال الثورة وإزاحة بن علي و"رأسماليته" من أجل تمكين ذاتها، وتعزيز قدراتها الاقتصادية من خلال السيطرة على الدولة، لكنها لا تدفع نحو تصفية هؤلاء وإزالة وجودهم، لأنهم جزء من الاقتصاد الرأسمالي، جزء من الطبقة الرأسمالية. وهذه الطبقة هي التي تحكم، كانت في زمن الحبيب بورقيبة، وفي زمن بن علي، وما زالت هي التي تحكم، تسيطر على الاقتصاد، وعلى السلطة. وهي، من خلال السلطة، تنفّذ سياسات صندوق النقد الدولي التي تخدمها هي كذلك.
بالتالي، ليست هذه السلطة هي التي ستحاسب الفاسدين وتنهي الفساد، لأنه جزء من "صُنْعَتها"، هو نشاطها الاقتصادي. وإذا كانت اضطرت إلى إبعاد جزء منها كانت أقرب إلى نظام بن علي نتيجة الثورة، وللالتفاف عليها، حان الوقت الذي تفرض فيه منظورها، وتعيد هؤلاء إلى وضعهم الطبيعي كجزء منها، كطبقة مسيطرة على الدولة. ولا شك في أن ذلك كله سبقه الميل إلى إعادة "رجالات" بن علي إلى الحكومة، وتمكين البيروقراطية القديمة التي صُنعت خلال فترتي حكم بورقيبة وبن علي. فالحزب الحاكم هو التعبير عن هذه الطبقة، وليس من نتاج الثورة. وحليفه "الإسلامي" يمثّل جزءاً من الطبقة، كان قد جرى تهميشه في سياق فرض احتكار الاقتصاد، لهذا هو يتوافق في ظل التحالف الحاكم مع خطوات إعادة الاعتبار لجزء من الرأسمالية كانت متهمة بأنها فاسدة. وكما أشرت أن كل الطبقة تنشط في المجالات نفسها التي ينشط فيها هؤلاء "الفاسدون".
لهذا كان "من الطبيعي" أن يعاد الاعتبار لهؤلاء، بعد أن أحسّ النظام بأنه قد ضبط الوضع، وأبعد شبح الثورة. بمعنى أن الطبقة المسيطرة تعود لـ"تتوحد"، بعد أن "ضبطت" الوضع. وبالتالي، عادت الطبقة التي حكمت في ظل بن علي، لتحكم بكل فروعها، مدعومة إلى الآن من فئةٍ تمثلها حركة النهضة. وهذا يعني تصعيد الهجوم على الشعب الذي خرج من الثورة كلها بتسمية المجلس مجلس "نواب الشعب"، وهو المجهود الذي بذله اليسار، والذي أوجد مجلساً مافياوياً تحت مسمى مجلس نواب الشعب. ولتحكم الطبقة ذاتها، لكن تحت مسمى مجلس نواب الشعب. وهذه هي حدود المسار الديمقراطي، حيث توجد الشكل "الممثل للشعب"، والذي تسيطر عليه الرأسمالية المعادية للشعب، والتي تريد ترتيب سلطتها بعد الهزة التي أحدثتها الثورة، والتي لم يستثمرها اليسار بما يفرض تغييراً جوهرياً في تكوين الدولة وبنية السلطة، ويشلّ قدرة الرأسمالية على إعادة سيطرتها بقوة.
ربما كانت هذه الخطوة نهاية المسار الديمقراطي، حيث تمكّنت الرأسمالية من أن تعيد لملمة
فئاتها، وفرضت السياسة الاقتصادية التي قرَّرها صندوق النقد الدولي، وتلوّح بعصا الإرهاب، لكي تضبط الحراك الشعبي. وباتت مستعدةً لمواجهة أي تمرّد جديد. بينما ينطلق جل الحراك السياسي المعارض من كيفية فصم العلاقة بين حزب نداء تونس وحركة النهضة، ويجهد من أجل تكتيك المعارضة من أجل ذلك. ولا شك في أن هذه الأحزاب الليبرالية تريد إبعاد "النهضة" وتكريس وجودها في السلطة، بحجج "الحداثة" والعلمنة وغيرهما، وتحت حجج تتعلق بالتخويف من الإسلام السياسي. هل ستصطف الجبهة الشعبية في هذا المسار، معتبرة أن حركة النهضة الخطر الرئيسي، بينما تعزّز رأسمالية النظام القديم من تلاحمها، وتفرض سياسة إفقار الشعب؟ وأيضاً بعد أن ظهر دعم الحركة كل الخطوات الاقتصادية التي تريدها الرأسمالية؟ المسألة هنا ليست ثقافوية، بل طبقية، ويجب أن ينطلق تحديد السياسات من الأساس الطبقي. لهذا، فإن كتلة الصراع هي الشعب. الشعب بمطالبه "الاقتصادية" أولاً، والتي لا تتحقق إلا بتغيير الطبقة المسيطرة كلها.
كان المسار الديمقراطي هو الفاصل بين دكتاتورية طبقة رأسمالية مافياوية وإعادة إنتاج دكتاتورية الطبقة ذاتها، ولم يكن يوصل إلى أكثر من ذلك، لأن هذه الطبقة المتحكمة بالسلطة لا يمكن أن تتنازل عن مصالحها ببساطة وسهولة. وما دامت هي السلطة أصلاً، فلن تسمح بانتصار يسار عبر صناديق الاقتراع، وستضعه في مزالق تُضعف من قدراته التي لم تُبنَ على قاعدة شعبية كانت انزاحت منذ زمن عن "المسار الديمقراطي"، لأنها تعرف نتائجه. وهذا كان يظهر في نسبة المشاركة في التصويت التي تراجعت بين انتخاباتٍ وأخرى. ولهذا ظلت تحتج في أشكال متعددة، وظلت تميل إلى الثورة.
هل كان الأمر مفاجئاً؟ ربما لمن توهّم أن الثورة تقدمت خطوات، بحيث يمكن محاسبة "الفاسدين"، لهذا عمّ الفرح تونس، حينما اعتقلت الحكومة، برئاسة يوسف الشاهد، عددا من هؤلاء، وكأن الضغط قد نجح في أن "تضطر" الحكومة إلى اعتقال هؤلاء لمحاسبتهم. لكن وجدنا أن مجلس نواب الشعب يقرّ قانون المصالحة، وتنتهي اتهامات الفساد، ويُغلق الملفّ.
ربما المفاجئ أن يعتقد أحد، من اليسار أو من أي تيار آخر، أن تقوم الحكومة بغير الذي قامت به عبر المجلس. وأن تكون معنيةً حقيقة، حتى وإنْ تحت الضغط في المجلس والصحافة، بمحاسبة هؤلاء الذين جرى اعتبارهم فاسدين، فهؤلاء ليسوا أفراداً، بل هم جزء من طبقة، ذلك
بالتالي، ليست هذه السلطة هي التي ستحاسب الفاسدين وتنهي الفساد، لأنه جزء من "صُنْعَتها"، هو نشاطها الاقتصادي. وإذا كانت اضطرت إلى إبعاد جزء منها كانت أقرب إلى نظام بن علي نتيجة الثورة، وللالتفاف عليها، حان الوقت الذي تفرض فيه منظورها، وتعيد هؤلاء إلى وضعهم الطبيعي كجزء منها، كطبقة مسيطرة على الدولة. ولا شك في أن ذلك كله سبقه الميل إلى إعادة "رجالات" بن علي إلى الحكومة، وتمكين البيروقراطية القديمة التي صُنعت خلال فترتي حكم بورقيبة وبن علي. فالحزب الحاكم هو التعبير عن هذه الطبقة، وليس من نتاج الثورة. وحليفه "الإسلامي" يمثّل جزءاً من الطبقة، كان قد جرى تهميشه في سياق فرض احتكار الاقتصاد، لهذا هو يتوافق في ظل التحالف الحاكم مع خطوات إعادة الاعتبار لجزء من الرأسمالية كانت متهمة بأنها فاسدة. وكما أشرت أن كل الطبقة تنشط في المجالات نفسها التي ينشط فيها هؤلاء "الفاسدون".
لهذا كان "من الطبيعي" أن يعاد الاعتبار لهؤلاء، بعد أن أحسّ النظام بأنه قد ضبط الوضع، وأبعد شبح الثورة. بمعنى أن الطبقة المسيطرة تعود لـ"تتوحد"، بعد أن "ضبطت" الوضع. وبالتالي، عادت الطبقة التي حكمت في ظل بن علي، لتحكم بكل فروعها، مدعومة إلى الآن من فئةٍ تمثلها حركة النهضة. وهذا يعني تصعيد الهجوم على الشعب الذي خرج من الثورة كلها بتسمية المجلس مجلس "نواب الشعب"، وهو المجهود الذي بذله اليسار، والذي أوجد مجلساً مافياوياً تحت مسمى مجلس نواب الشعب. ولتحكم الطبقة ذاتها، لكن تحت مسمى مجلس نواب الشعب. وهذه هي حدود المسار الديمقراطي، حيث توجد الشكل "الممثل للشعب"، والذي تسيطر عليه الرأسمالية المعادية للشعب، والتي تريد ترتيب سلطتها بعد الهزة التي أحدثتها الثورة، والتي لم يستثمرها اليسار بما يفرض تغييراً جوهرياً في تكوين الدولة وبنية السلطة، ويشلّ قدرة الرأسمالية على إعادة سيطرتها بقوة.
ربما كانت هذه الخطوة نهاية المسار الديمقراطي، حيث تمكّنت الرأسمالية من أن تعيد لملمة
كان المسار الديمقراطي هو الفاصل بين دكتاتورية طبقة رأسمالية مافياوية وإعادة إنتاج دكتاتورية الطبقة ذاتها، ولم يكن يوصل إلى أكثر من ذلك، لأن هذه الطبقة المتحكمة بالسلطة لا يمكن أن تتنازل عن مصالحها ببساطة وسهولة. وما دامت هي السلطة أصلاً، فلن تسمح بانتصار يسار عبر صناديق الاقتراع، وستضعه في مزالق تُضعف من قدراته التي لم تُبنَ على قاعدة شعبية كانت انزاحت منذ زمن عن "المسار الديمقراطي"، لأنها تعرف نتائجه. وهذا كان يظهر في نسبة المشاركة في التصويت التي تراجعت بين انتخاباتٍ وأخرى. ولهذا ظلت تحتج في أشكال متعددة، وظلت تميل إلى الثورة.