اختفى ذلك المشهد الذي ترفرف فيه أعلام فلسطين، على سلم نقابة الصحافيين المصرية، المعروفة بـ"قلعة الحريات". تلاشى هتاف "يا فلسطيني يا فلسطيني.. دمك دمي ودينك ديني". لم تبق سوى حفنة قليلة من النشطاء والمدافعين عن القضية الفلسطينية، يحرقون العلم الإسرائيلي على سلم النقابة، ويطلقون هتافات معادية للكيان الصهيوني، لا تُسمِع من هم على بعد أمتار قليلة منهم.
في أعقاب "ثورة 25 يناير"، كان الإعلام المصري والعربي وحتى الدولي، حاضرا في كافة الأحداث السياسية والاجتماعية الخاصة بالشأن الفلسطيني. كانت قاعات المؤتمرات الصحافية والشعبية، تعجّ بمئات الصحافيين والمصوّرين من كافة وسائل الإعلام، والميكرفونات تتزاحم أمام منصات المتحدثين. أما بعد 3 يوليو (2013)؛ فقد اختلف المشهد كثيرا؛ حيث سيطر مناخ الخوف على وسائل الإعلام الجماهيرية، وبقيت وسائل إعلامية قليلة قادرة على مقاومة الخوف.
تكاد القضية الفلسطينية تغيب عن الشارع السياسي المصري، لعدة أسباب، لعل أهمها؛ الانشغال بالأحداث السياسية الدامية في مصر منذ سنوات، والهجوم الإعلامي الضاري على حركة "حماس" وغيرها من عناصر المقاومة في الأراضي المحتلة، بل إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لم يجد حرجا من إعلان "تمسكه بفلسطين، وعاصمتها القدس الشرقية" في واحدة من خطاباته الدولية في الأمم المتحدة.
هكذا، لم يعد مستغربا من قناة فضائية مصرية خاصة، أن تصف المستوطنين بـ"الشهداء"، إذ قرأ مشاهدوها في شريطها الإخباري نبأ "استشهاد مستوطنين إسرائيليين وإصابة اثنين آخرين طعنا في القدس"، كما لا يستغرب عنوان تقرير على قناة فضائية خاصة أخرى، تقريرا بعنوان "الإرهاب الفلسطيني يجتاح إسرائيل".
بعد ذلك، لم يلتفت أحد لموقع "دوت مصر" الإخباري، الذي ادعى "الحياد" بوصف الشهداء الفلسطينيين بـ"القتلى"، وواظب على نشر تصريحات من يعرفه بـ"المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي"، أفيخاي إدرعي، التي ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، كنوع من "الأخبار الخفيفة" على الموقع.
ورغم تجاهل العديد من القنوات الإعلامية المصرية، لتغطية أحداث الانتفاضة الثالثة في فلسطين؛ فقد فرضت الدماء نفسها على الساحة الإعلامية المصرية، وأجبرتها على محاكاة الإعلام العربي والأجنبي، على الأقل.
تزامنت هذه التوجّهات الإعلامية، مع فتوى أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والمقرّب من النظام المصري، سعد الدين الهلالي، بأنه "لا يجب أن ندافع عن المسجد الأقصى حتى لا ندخل في حرب دينية مع إسرائيل، مضيفا في مداخلة هاتفية مع واحدة من الفضائيات المصرية، "المسجد لله ليس لك ولا لي.. بالله عليكم، الرسول عندما مات، كان المسجد الأقصى في يد من، المسلمين أم المسيحيين، لقد كان في يد المسيحيين".
بهذه المقارنات العجيبة، برر أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، رفضه أعمال المقاومة لاستعادة المسجد الأقصى، وهو الشيخ نفسه الذي سبق أن وصف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ووزير داخليته السابق، محمد إبراهيم بـ"الرسل والأنبياء".
والإعلام المصري، لم يتمكن أيضا من الفصل ما بين المقاومة الفلسطينية ككل، وحركة حماس بشكل خاص، رغم أن الأخيرة لم تعد "إرهابية" في مصر، بحكم القرار الصادر من القضاء المصري بإلغاء حكم اعتبار حركة حماس إرهابية.
فالموقع الإخباري المصري "فيتو" نشر تقريرا بعنوان "انتفاضة السكاكين.. تحيي أمجاد المقاومة في فلسطين.. الشباب يفضح عجز الفصائل المسلحة"، جاء فيه "انتفاضة أو حرب السكاكين، التي يخوضها الشباب الفلسطيني، أثبتت فشل الفصائل المسلحة وفي مقدمتها حركة حماس. وأن الشباب الفلسطيني هو الأكثر وطنية وقيمة في الدفاع عن المقدسات والأرض من الحركات التي انشغلت بالصراع على السلطة، بحسب مراقبين للشأن الفلسطيني".
بيد أن هناك كتّاب رأي ومقالات، فضّلوا الإمساك بالعصا من الوسط، وهاجموا كلاً من حماس وفتح، في إطار كتاباتهم عن "انتفاضة السكاكين". ومن بين هؤلاء، الكاتب الصحافي، عبد الحليم قنديل، الذي هاجم الرئيس الفلسطيني محمود عباس في صحيفة "الأخبار" المصرية، متهماً إياه بالترويج "لإنهاء سيرة المقاومة بمساومات عليلة، انتهى هو نفسه إلى الكفر بها، والتوقف عن عادة التفاوض الذليل مع الإسرائيليين". كما هاجم بالتبعية حركة حماس، الني اتهمها بأنها "تحولت إلى قرين يشبه عباس، فقد روجت لنفسها طويلاً كعنوان لخط المقاومة، لكنها نزلت إلى مستنقع أوسلو وتوابعها... وانتهت إلى المساومة على نصيب في كعكة الهوان".
هكذا أصبحت فلسطين تعني لبعض الإعلاميين "حركة حماس" فقط، وتعني لآخرين "تهديداً للأمن القومي المصري"، وتعني لقلة "الانتفاضة، وأشرف حركة مقاومة على سطح الأرض". لذا لم يعد مستغربا أن تتناول صحف عربية، الأداء الإعلامي المصري تجاه القضية الفلسطينية، بالكثير من النقد والهجوم.
سكاكين مطبخ وسكاكين جرائد
على أعمدة الصحف المصرية، باتت المقالات المتعلقة بالشأن الفلسطيني تحاكي نفس النبرة والتصورات الاستشراقية في الصحافة العالمية، منتقدة "ثورة السكاكين"، بادعاء المساواة والسير وفقا لـ"المسطرة الإنسانية والأخلاقية" التي تقيس كل شيء، وهو التعبير الذي استخدمه كاتب الرأي، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، عمرو حمزاوي.
ففي مقال له منشور بصحيفة "الشروق" المصرية، تحت عنوان "في أن المسطرة الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية واحدة"، كتب الحمزاوي: "إذا كنا ندين الاعتداءات المتكررة للمستوطنين المجرمين، فإننا لا نملك ترف الصمت على انجرار بعض الفلسطينيين إلى العنف المضاد"! هكذا تصبح المقاومة مجرّد عنفٍ مضاد، في حين يرى الحمزاوي أن "العنف الفلسطيني" يفسد سلمية الحراك المقاوم الراهن في كل أراضي فلسطين التاريخية، ويشوه المشهد العظيم لشعب يناضل من أجل حقه في تقرير المصير والكرامة والحرية ويواجه في سبيل قضيته العادلة آلات القتل".
ووفقاً لهذا المنطق يصبح "انجرار مقاومة الشعب الفلسطيني إلى العنف"، و"مساندة المصريين والعرب لأعمال العنف المضاد التي يرتكبها بعض الفلسطينيين"، بـ"الخطأ الفادح"، على اعتبار أن "عظمة المقاومة الفلسطينية هي في سلميتها التي جسدتها الانتفاضة الأولى في ثمانينيات القرن العشرين، وترتبط فاعليتها أيضا بسلميتها التي دوما ما أربك التمسك بها حسابات القتلة الإسرائيليين وجدد دماء التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني".
نفس الرواية يتبناها الكاتب الصحافي، إبراهيم عيسى، في برنامجه المذاع على واحدة من القنوات الفضائية المصرية الخاصة، قائلا "هذا الأسلوب يبدّد حق القضية الفلسطينية ويكرر أخطاء الماضي... ففلسطين لن تتحرّر بسكاكين يطعن فيها مستوطن، مع احترامي للنضال الفلسطيني، فهذا لا يخدم نبل قضيتنا"، مهاجما "ثورة السكاكين" في الأراضي المحتلة.
وفي مقال لـ عيسى في جريدة "المقال" التي يرأس تحريرها، بعنوان "سكاكين المطبخ لن تحرر فلسطين"، ذهب للقول "إن الفلسطينيين حين يقررون الغضب إن كان الغضب ينتظر قرارا أصلا، إنما يطعنون الإسرائيليين بالسكاكين، واسمحوا لي وسط حمى الغضب أن أختلف على هذه الفعلة، وأكاد أشعر معها أنكم تخذلون قضيتنا النبيلة حين تستخدمون سكاكين لطعن عابري سبيل أو أفراد يمرون هنا أو هناك".
هكذا يصبح المستعمِر -المسلح في معظم الأحيان- مجرّد عابر سبيل. ولا حاجة مع هذا التبسيط إلى معرفة أعمق بما يسمى المجتمع الإسرائيلي الذي ينطبق وصف الجنود على الشريحة الأكبر من أفراده (هم جنود احتياط حتى بعد إنهاء الخدمة العسكرية) ولا يقل المستوطنون "المدنيون" عن هؤلاء تسلحاً وعدوانية.
رغم علو الموجة وإغراقها لأي صوت يخالفها الرأي، إلا أن المصري يظل يعقد رهانه على وجدانه المناصر لقضية فلسطين بحكم التاريخ والدم المشتركين؛ مهما تاه أمام ما يرى ويسمع يوميا في الإعلام المصري الذي لم يعد يمثله؛ ولكنه ليس بيده سوى أن ينشر ويتداول مقاطع الفيديو التي انتشرت عن العمليات الاستشهادية التي قام بها شباب من الجنسين في فلسطين المحتلة، ويملأ مواقع التواصل الاجتماعي صخبا بالحديث عن "انتفاضة السكين" وأبطالها، متباهيا بنضالهم، ومتمنيا لو حمل حجرا بجوارهم، ومترحما على نخوة العرب وأحلام وحدتهم.
(القاهرة)