02 نوفمبر 2024
مصر وهدوء الشاشات: لا خبر يعلو على الدعاية
لم يحصل شيء يذكر في تلك الأيام من يناير/ كانون الثاني 2011، عندما نزلت أعداد كبيرة من المصريين إلى الشارع. بحسب الإعلام المصري، رسمي وخاص، كان الوضع هادئاً للغاية. ما حدث لم يكن أكثر من محاولات بعض المرتزقة من الأيادي "المدسوسة" خضّ استقرار البلاد. بعد إزاحة حسني مبارك، تحوّل الإعلام المصري، عام وخاص، بين ليلة وضحاها، إلى الاحتفاء بثورة "الشعب الذي أسقط النظام". بعد استيلاء العسكر على الحكم، ومع تفاقم سواد السجل الحقوقي للحكام الجدد، عاد الإعلام المحلي، بشقيه العام والخاص، إلى تكرار مقولة الهدوء المستتب المعرّض لخطر التعكير من عصابة "الأشرار" المتربصين بالدولة ومؤسساتها.
بالنسبة للغالبية العظمى من المؤسسات الإعلامية والعاملين فيها، لم تستحق التظاهرات الاحتجاجية أخيراً اعتراضاً على "بيع" جزيرتي تيران وصنافير، وهي التظاهرات الأوسع ضد النظام، لم تستحق التغطية الواسعة، نظراً لرفع المتظاهرين أو بعضهم شعارات اعتبرت "انقلابية". اقتصرت التغطية، في حال حصولها، على بعض الصور من دون تعليقات أو شعارات، لتعود بنا إلى عهد ما قبل ثورة يناير، عندما كان النقل الإعلامي لأشكال الاعتراض السياسي السلمي تقتصر على بعض الصور الصامتة، إذا ما حصل.
لا يحظى الرعب الذي يمارسه النظام على كل أشكال التعبير خارج إطار الدعاية له بأي اهتمام من الإعلام التقليدي. الدولة و"مؤسساتها" أصابتها حالة هستيرية. التعذيب في المعتقلات، الاعتقالات العشوائية، المنع من السفر، المحاكمات المفتقرة إلى الحد الأدنى من معايير العدالة.. كلها باتت مادةً يومية للصحافة في العالم. في تقرير حديث، تحدّثت منظمة "هيومان رايتس ووتش" الحقوقية عن عمليات تعذيبٍ تقوم بها الشرطة المصرية بحق معتقلين أطفال. أعلنت مؤسسة حرية الرأي والتعبير المصرية، أخيراً، أن إجمالي عدد المعتقلين في حملة الاعتقالات الواسعة التي تقوم بها وزارة الداخلية، في مداهماتٍ تشمل أماكن عمل ناشطين ومنازلهم، وصولاً إلى مداهماتٍ عشوائية في المقاهي، بلغ حتى يوم السبت 23 إبريل/ نيسان الجاري 75 شخصًا. دان المركز العربي لمعلومات حقوق الإنسان عودة ظاهرة "زوار الفجر" في سلسلة اعتقالاتٍ طاولت ناشطين وحقوقيين ومسؤولين عن مواقع إخبارية إلكترونية، تقدم خطابا نقيضا للدعاية للنظام في الإعلام.
في موازاة هذه الحملة المستعرة، يواصل الإعلام التقليدي مناقشة فصول المؤامرة الكونية على "الدولة"، والتنبؤ بأشكالها اللاحقة، في حين تضج وسائط الإعلام البديل من وسائط الإعلام الحديث إلى بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية بأشكال الانتهاكات على أيدي قوى الأمن بشكلٍ يفوق الوصف، ومنها أخيراً مقتل مواطن برصاص شرطي، بعد رفض الأخير دفع ثمن كوب من الشاي. بات الإعلام البديل، على قلة إمكاناته وهشاشة وضعه، الناقل الرئيسي لرواية سقوط النظام في أبشع أشكال القمع، فضلا عن رواية القدرة المدهشة للمجتمع المدني المستقل، على ضيق رقعته، على مقاومة هذا القمع، والتجرؤ على رفضه.
لم تحدث سنوات ما بعد ثورة 25 يناير 2011 تغييراً يلحظ في أداء الإعلام التقليدي في
مصر، على الرغم من الاتساع الكبير لقدرة هذا الإعلام على مقاربة موضوعاتٍ كانت تعتبر من الخطوط الحمراء. لم تعتبر، آنذاك، أشكال التعبير عن رفض سياسات الرئيس محمد مرسي، ومنها السخرية من شخصه، من أشكال المؤامرة على الدولة المصرية، ولم يصور استيلاء العسكر على السياسة، عبر إسقاط الرئيس المنتخب بالقوة انقلاباً، بل إنقاذا للبلاد من مؤامرةٍ تحاك ضد هويتها الوطنية. الأصوات نفسها المنوهة بمآثر الانقلاب تحذّر، اليوم، من انقلاب يحمله شباب يدافع عن دولة القانون، في وجه حملةٍ مسعورةٍ لتدمير مؤسسات الدولة، واستخدامها مطيّةً لأسوأ أشكال القمع والانتهاكات للحقوق والحريات الأساسية. هل كانت هذه الأصوات معنيةً، فعلاً، بحرية التعبير، أم مردّدة فقط لسياسات أولياء الأمر وأجنداتهم؟
بصرف النظر عن الأسباب التي جعلت من هؤلاء الإعلاميين أصواتاً مدافعةً أولاً عن الحريات، ثم عن القمع بأسوأ أشكاله، تثبت الحالة المصرية الحدود الضيقة لمحاولات تحديث الإعلام، عندما تكون الغالبية العظمى من الجسم الإعلامي، أو الهيئات المعنية بتمثيل مصالحه، غير معنية بعملية التحديث هذه. لم تحدث محاولات التحديث هذه، والتي ترجمت، في الغالب، في تعزيز قدرة الإعلاميين على التعبير عن آرائهم، أي شرخ في اقتناع الإعلاميين أن مهتهم تقوم على تفسير الحدث وتوجيهه، وليس على نقل عناصره، قبل أي شيء آخر. هل شعارات هذه التظاهرة قابلة للنشر أم لا؟ هل هي محقّة أم لا؟ هل هي مناسبة لسياسات الوسيلة الإعلامية وممولها أم لا؟
لا يمكن التقليل من وطأة حملة القمع الواسعة التي يتعرّض لها الصحافيون، والقيود التي تفرض على آليات الإنتاج الإعلامي، سواء تحت تأثير السياسات العامة، أو حرص الإدارة على تكميم أفواه صحافييها. ولعل نشر صحيفة الشروق اعتذاراً عن نشرها خبراً نقلاً عن مصادر أمنية يتحدث عن لقاءات للجنرال عبد الفتاح السيسي مع مسؤولين للبحث في خطةٍ لمواجهة التظاهرات المقبلة، قائلة إنها تلقت معلومات "مدسوسة"، لعله مثالٌ على عملية الرقابة الداخلية الحثيثة التي تمارسها مؤسساتٌ كانت بالأمس طليعية في نقل النقاشات المتعلقة بما بعد ثورة يناير وعملية الانتقال السياسي.
ويبقى السؤال الأبرز: كيف يمكن تفسير القدرة المذهلة لصحافيي الإعلام التقليدي، أو غالبيتهم العظمى، على التعايش "الإيجابي" مع الرقابة التي حوّلتهم إلى مجرد كَتَبة لها؟ ما الذي يفسّر ضيق رقعة حركات التمرد من الداخل، في حال وجدت، في وجه سيطرة الإدارة على الإنتاج، لتطويعه إلى مجرد تردادٍ فج لما يجري في كواليس السياسة؟ كيف يعجز الصحافيون بعد اختبار سنوات من العمل الإعلامي الحر، نسبياً، عن المطالبة باسترداد ما خسروه ويخسرونه كل يوم، باسم نظريات "الوطنية" المعلّبة، دفاعاً عن النظام؟
الخبر الآن لدى الإعلام البديل إلى أن يستيقظ الإعلام التقليدي من سباته العميق.
بالنسبة للغالبية العظمى من المؤسسات الإعلامية والعاملين فيها، لم تستحق التظاهرات الاحتجاجية أخيراً اعتراضاً على "بيع" جزيرتي تيران وصنافير، وهي التظاهرات الأوسع ضد النظام، لم تستحق التغطية الواسعة، نظراً لرفع المتظاهرين أو بعضهم شعارات اعتبرت "انقلابية". اقتصرت التغطية، في حال حصولها، على بعض الصور من دون تعليقات أو شعارات، لتعود بنا إلى عهد ما قبل ثورة يناير، عندما كان النقل الإعلامي لأشكال الاعتراض السياسي السلمي تقتصر على بعض الصور الصامتة، إذا ما حصل.
لا يحظى الرعب الذي يمارسه النظام على كل أشكال التعبير خارج إطار الدعاية له بأي اهتمام من الإعلام التقليدي. الدولة و"مؤسساتها" أصابتها حالة هستيرية. التعذيب في المعتقلات، الاعتقالات العشوائية، المنع من السفر، المحاكمات المفتقرة إلى الحد الأدنى من معايير العدالة.. كلها باتت مادةً يومية للصحافة في العالم. في تقرير حديث، تحدّثت منظمة "هيومان رايتس ووتش" الحقوقية عن عمليات تعذيبٍ تقوم بها الشرطة المصرية بحق معتقلين أطفال. أعلنت مؤسسة حرية الرأي والتعبير المصرية، أخيراً، أن إجمالي عدد المعتقلين في حملة الاعتقالات الواسعة التي تقوم بها وزارة الداخلية، في مداهماتٍ تشمل أماكن عمل ناشطين ومنازلهم، وصولاً إلى مداهماتٍ عشوائية في المقاهي، بلغ حتى يوم السبت 23 إبريل/ نيسان الجاري 75 شخصًا. دان المركز العربي لمعلومات حقوق الإنسان عودة ظاهرة "زوار الفجر" في سلسلة اعتقالاتٍ طاولت ناشطين وحقوقيين ومسؤولين عن مواقع إخبارية إلكترونية، تقدم خطابا نقيضا للدعاية للنظام في الإعلام.
في موازاة هذه الحملة المستعرة، يواصل الإعلام التقليدي مناقشة فصول المؤامرة الكونية على "الدولة"، والتنبؤ بأشكالها اللاحقة، في حين تضج وسائط الإعلام البديل من وسائط الإعلام الحديث إلى بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية بأشكال الانتهاكات على أيدي قوى الأمن بشكلٍ يفوق الوصف، ومنها أخيراً مقتل مواطن برصاص شرطي، بعد رفض الأخير دفع ثمن كوب من الشاي. بات الإعلام البديل، على قلة إمكاناته وهشاشة وضعه، الناقل الرئيسي لرواية سقوط النظام في أبشع أشكال القمع، فضلا عن رواية القدرة المدهشة للمجتمع المدني المستقل، على ضيق رقعته، على مقاومة هذا القمع، والتجرؤ على رفضه.
لم تحدث سنوات ما بعد ثورة 25 يناير 2011 تغييراً يلحظ في أداء الإعلام التقليدي في
بصرف النظر عن الأسباب التي جعلت من هؤلاء الإعلاميين أصواتاً مدافعةً أولاً عن الحريات، ثم عن القمع بأسوأ أشكاله، تثبت الحالة المصرية الحدود الضيقة لمحاولات تحديث الإعلام، عندما تكون الغالبية العظمى من الجسم الإعلامي، أو الهيئات المعنية بتمثيل مصالحه، غير معنية بعملية التحديث هذه. لم تحدث محاولات التحديث هذه، والتي ترجمت، في الغالب، في تعزيز قدرة الإعلاميين على التعبير عن آرائهم، أي شرخ في اقتناع الإعلاميين أن مهتهم تقوم على تفسير الحدث وتوجيهه، وليس على نقل عناصره، قبل أي شيء آخر. هل شعارات هذه التظاهرة قابلة للنشر أم لا؟ هل هي محقّة أم لا؟ هل هي مناسبة لسياسات الوسيلة الإعلامية وممولها أم لا؟
لا يمكن التقليل من وطأة حملة القمع الواسعة التي يتعرّض لها الصحافيون، والقيود التي تفرض على آليات الإنتاج الإعلامي، سواء تحت تأثير السياسات العامة، أو حرص الإدارة على تكميم أفواه صحافييها. ولعل نشر صحيفة الشروق اعتذاراً عن نشرها خبراً نقلاً عن مصادر أمنية يتحدث عن لقاءات للجنرال عبد الفتاح السيسي مع مسؤولين للبحث في خطةٍ لمواجهة التظاهرات المقبلة، قائلة إنها تلقت معلومات "مدسوسة"، لعله مثالٌ على عملية الرقابة الداخلية الحثيثة التي تمارسها مؤسساتٌ كانت بالأمس طليعية في نقل النقاشات المتعلقة بما بعد ثورة يناير وعملية الانتقال السياسي.
ويبقى السؤال الأبرز: كيف يمكن تفسير القدرة المذهلة لصحافيي الإعلام التقليدي، أو غالبيتهم العظمى، على التعايش "الإيجابي" مع الرقابة التي حوّلتهم إلى مجرد كَتَبة لها؟ ما الذي يفسّر ضيق رقعة حركات التمرد من الداخل، في حال وجدت، في وجه سيطرة الإدارة على الإنتاج، لتطويعه إلى مجرد تردادٍ فج لما يجري في كواليس السياسة؟ كيف يعجز الصحافيون بعد اختبار سنوات من العمل الإعلامي الحر، نسبياً، عن المطالبة باسترداد ما خسروه ويخسرونه كل يوم، باسم نظريات "الوطنية" المعلّبة، دفاعاً عن النظام؟
الخبر الآن لدى الإعلام البديل إلى أن يستيقظ الإعلام التقليدي من سباته العميق.