معاهدة لوزان وتجديد الأكاذيب
يبدو أن بعضهم يريد أن يحمّل اتفاقية لوزان التي عقدت بين تركيا والدول الأوروبية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، كل أوزار الماضي وخطاياه، على الرغم من أنها تمثل العكس تماماً. فقبل عدة أشهر، انتشرت معلومة كاذبة بصورة خرافية، تفيد بأن مدّة المعاهدة مائة عام، وبالتالي ستنتهي صلاحيتها عام 2023، وأن من بنودها منع تركيا من التنقيب عن البترول والغاز، وإعلان علمانية الدولة. وقد تورّط في ترويج الخرافة كتّاب وأشخاصٌ عديدون ينسبون أنفسهم زوراً إلى علم التاريخ ومهنة التأريخ، كان أحدهم قد نشر كتابين عن الدولة العثمانية قبل سنوات، هو "قص ولصق" من كتب أخرى سابقة، بدون أي إضافةٍ منه، فضلاً عن ترويج عشرات الخرافات في الكتابين، من قبيل أن محمد علي باشا ماسوني! وأن أتاتورك يهودي، وأن انتصاراته في الحرب العالمية الأولى على الإنكليز كانت "مسرحية"، وغيرها من أكاذيب تحوّلت إلى ما يشبه البديهيات التي لا تقبل النقاش لدى جزء من أنصار التيار الإسلامي.
وقد تصدّى لتفنيد تلك الأكذوبة كتّاب عديدون، مثل محمد أبو الغيط في مقال له في صحيفة "العربي الجديد"، والفلسطيني سعيد الحاج، والمترجم عبد السلام حيدر. ولكن يبدو أن بعضهم يحاول إعادة عجلة التخاريف مرة أخرى، لمجرّد الحصول على إعجاب الجمهور وتفاعله مع منشوراته على مواقع التواصل، وقد مثلت قضية إعادة آيا صوفيا إلى مسجد مدخلاً جديداً لهؤلاء، فقد انتشرت رواية مفادها بأن اختيار يوم 24 يوليو/ تموز لإعادة افتتاح آيا صوفيا مسجداً يأتي تزامناً مع توقيع معاهدة لوزان، زاعمين أن المعاهدة أعلنت "سقوط الخلافة الإسلامية". وهذا الكلام عبثي ومغلوط تماماً، لأن من ألغى "الخلافة" هو مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، بينما وقعت معاهدة لوزان عام 1923، كما أن ما تسمى "الخلافة" كانت قد سقطت عملياً عندما هُزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، إلى درجة أن قوات الحلفاء احتلت إسطنبول ومناطق عديدة في تركيا، وتم تقسيم تركيا نفسها بين المنتصرين (البريطانيين والفرنسيين واليونانيين والأرمن)، تاركين للأتراك مساحة صغيرة في هضبة الأناضول ليقيموا فيها دولتهم، بموافقة "الخليفة" الأخير نفسه، والذي لم يكن بيده شيء من الأصل، وكان المنصب شرفياً ولا سلطات حقيقية لديه، ولولا أن أتاتورك أعلن التمرّد والجهاد ضد المحتلين وانتصر عليهم، لكان للأتراك الآن دولة صغيرة لا تقارن بمساحة تركيا الحالية.
أما معاهدة لوزان التي يحمّلونها جميع الأوزار والخطايا، فقد مثلت انتصاراً سياسياً كبيراً للأتراك، لأنهم، وفقها، استعادوا مناطق كثيرة كان يحتلها الحلفاء أو قرّروا إعطاءها لدول أخرى، وفقاً لمعاهدة سيفر عام 1920، مثل أزمير وغازي عنتاب وأورفا ومرسين وأضنة وديار بكر وماردين، فضلاً عن الجزء الأوروبي من تركيا. وبالتالي، فإن اختيار هذا اليوم لإعادة افتتاح آيا صوفيا إنما يمثل بالنسبة للأتراك معنى مغايراً تماماً لما يفترضه بعض العرب، إذ يمثل بالنسبة إليهم ذكرى انتصار وليست ذكرى هزيمة، أما بعض الجهلاء، فهم يتعاملون مع المعاهدة كأنها تمثل تنازلاً من الدولة العثمانية عن "أملاكها" التي كانت لديها في القارّات الثلاث عندما كانت قوية، على الرغم من أنها كانت قد خسرتها بالفعل على مدار قرون سابقة، ولا تستطيع فعل شيء تجاه استعادتها، بل تعرّضت تركيا نفسها للاحتلال.
معاهدة لوزان، التي يحمّلونها جميع الأوزار والخطايا، مثلت انتصاراً سياسياً كبيراً للأتراك، لأنهم، وفقها، استعادوا مناطق كثيرة كان يحتلها الحلفاء أو قرّروا إعطاءها لدول أخرى
وبشأن استخدام الرموز في هذا الحدث، يمكن مثلاً الحديث عن أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، اختار الساعة 20:53 لإلقاء خطابه في يوم قرار المحكمة نفسه الذي قضى بإلغاء قرار تحويل آيا صوفيا متحفاً، في إشارة إلى عام 2053 الذي سيصادف الذكرى رقم 600 لفتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، فضلاً عن أن الحدث نفسه امتلأ بإشارات رمزية، مثل السيف الذي حمله الخطيب، وتعليق رايات الفتح، وغيرها من رموز يتفق بعضهم أو يختلف بشأنها، لكنها تبقى على الأقل معلومات صحيحة، وليست أكاذيب.
وقد تكون للدولة التركية طموحات في الوقت الحالي لتجاوز معاهدة لوزان، لكن تلك الطموحات ستكون موجودة، ليس بسبب معاهدة لوزان نفسها، بل بسبب أن تركيا حالياً أقوى من وضعها عام 1923، عندما كانت المعاهدة تمثل انتصاراً لها. ولكن لا يجب ممارسة التدليس التاريخي، والزعم أنه كان في الإمكان أفضل مما كان في ذلك الوقت، لأن الوضع كان مختلفاً تماماً.
بعد هذا كله، تبقى الخرافة الكبرى التي لا تزال تنتشر، ويصدقها مئات آلاف من العرب، وهي أن معاهدة لوزان تنتهي عام 2023، ولن تنتهي هذه الخرافة إلا بعد حلول هذا العام حتى يصدّق هؤلاء الواهمون أنها ليست أكثر من كذبة.