معركة صهيونية على أعتاب أوبرا نيويورك (1- 2)
من حقك طبعا أن يكون لك مفهومك الخاص للتخلف والتقدم بكل ما يرتبط بالمصطلحين من إشكاليات يطول في شرحها الكلام، لكن من تمام التخلف الجليّ عندي أن يعتقد إنسان يعيش في القرن الحادي والعشرين، بقدرته على منع عمل فني أو أدبي يتصور أنه يشكل خطورة داهمة على معتقداته وأفكاره، فيستميت من أجل منع وصول هذا العمل للراغبين في مشاهدته وقراءته، ولأن هذا يحدث طيلة الوقت في بلادنا المنكوبة بملايين الأوصياء على الفكر والفن بإسم الدين والوطنية والأخلاق والعيب والقيم، فقد كان غريبا جدا بالنسبة لي أن أرى حشودا من الناس تجتمع في قلب نيويورك إحدى أكبر عواصم الفن والثقافة في العالم، وأمام دار أوبرا المتروبوليتان الشهيرة، مطالبين بمنع عرض "أوبرا" لأنها متهمة من وجهة نظرهم بمناصرة الإرهاب الفلسطيني ومعاداة السامية، هاتفين في وجوه صناعها، بل وفي وجوه الداخلين لحضور ليلتها الإفتتاحية، بالنص ودون مبالغة: "العار عليكم، هناك دم على أيديكم".
هذه الأوبرا التي أثارت غضب الجموع وتسببت في إطلاق عدد من المنظمات الصهيونية في نيويورك والعالم لحملة تطالب بوقف عرضها فورا، حملت اسم "موت كلينجوفر"، وقد أبدع موسيقاها الموسيقار الأمريكي الشهير جون آدامز الحاصل على جائزة بوليتزر الشهيرة، وكتبت نصها الأوبرالي الشاعرة الأمريكية أليس جولدمان، ليقدم العمل رؤية فنية لحادث اختطاف مجموعة فلسطينية مسلحة للسفينة أكيلي لوروا عام 1985، الذي نتج عنه حادث مأساوي هو قتل مواطن أمريكي يهودي مسن ومُقعد اسمه ليون كلينجوفر، معتبراً أن هذا الحادث يشكل مدخلا مناسبا لقراءة دراما أزمة الشرق الأوسط كما يطلق عليها في أمريكا، ومع أن اختيار هذا الحادث بالذات ليصبح هو المدخل لقراءة هذه الأزمة لا يوحي برغبة في الإنحياز لصالح الفلسطينيين، إلا أن قيام الأوبرا بتقديم وجهة نظر المختطفين والرهائن وإظهار أنهم ليسوا شخصيات منزوعة عن واقع ما وجذور ما دفعتهم إلى ما فعلوه، هو الذي أثار غضب المنظمات الصهيونية والمتعاطفين معها، فقد تم اعتباره مساواة بين الإرهابيين والضحايا، وإتاحة الفرصة للإرهاب أن يكون له منطق يعرض على الناس، وهو ما أثار سجالات إعلامية حادة قبل عرض الأوبرا، استدعت أن يقوم المسئولون عن عرض المسرحية والمهتمون بحرية التعبير، بالتأكيد على وقوفهم ضد الإرهاب، ثم التذكير ببديهيات فنية كانوا يظنون أنها صارت محسومة لدى الجميع، أولها أن كل فعل حتى لو كان إجراميا أو إرهابيا تقف وراءه وجهة نظر، لا يعني عرضها الموافقة عليها، ولا يجب أن تكون إدانتها مانعا لمحاولة فهم دوافع هذا الفعل الإرهابي، خصوصا عندما تكون له ظروف موضوعية معقدة، وهو ما حاول صناع العمل فعله، قبل أن يدركوا أن ذلك سيجلب لهم الإتهام بالإرهاب.
الغريب أن هذا العرض لأوبرا جون أدامز لم يكن العرض الأول لها في العالم، فقد جاء بعد 23 عاما على خروجها للنور، حيث كان عرضها الأول في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 1991، أي بعد ستة أعوام من حادث الإختطاف، لتُعرض منذ ذلك التاريخ في أهم دور أوبرا العواصم الأوروبية، بل وتم عرضها من قبل في إحدى المراكز الفنية في نيويورك أيضا وبالتحديد في أكاديمية بروكلين للموسيقى وكان ذلك عرضها الأول في أمريكا، أعقبه عرض آخر في أوبرا سان فرانسيسكو، ومع ذلك فلم يثر العرضان نفس هذه الضجة التي وجدت طريقها إلى كل الصحف ومحطات التلفزيون، فقد اعتبرت المنظمات الصهيونية أن عرضها في دار أوبرا المتروبوليتان خط أحمر لا يمكن عبوره، وبدأت حملة لمطالبة كبار المتبرعين للدار بسحب تبرعاتهم إذا أصرت الدار على عرضها، لتقع الدار في مأزق صعب، بين أن تخسر مصداقيتها الفنية والثقافية، أو تخسر متبرعيها الأسخياء الذين يساعدونها على البقاء كواحدة من أهم دور الأوبرا في العالم، وبرغم أن إدارة الأوبرا انحازت لحرية الفن مع بعض التنازلات، وبرغم أن الأزمة هدأت ظاهريا ولم يعد هناك حشود تتظاهر في الشوارع كل ليلة أمام العرض الذي استمر ولم ينجح المتظاهرون في إيقافه، إلا أن الأزمة ستترك أثراً مستقبلياً على أي تعامل فني في المتروبوليتان وغيره من المؤسسات الكبيرة، مع أي أعمال فنية لا تنال رضا المتبرعين ذوي وجهات النظر السياسية أو الدينية، خصوصا إذا كانت أعمالا تقدم رؤية مختلفة للرؤية الصهيونية المعتمدة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.
أعترف أنني لم أكن سأشاهد تلك الأوبرا أصلا، لأن ثقافتي الأوبرالية لا زالت في غاية الضعف، لكنني حين شاهدت أول إعلان للأوبرا في ملحق الأحد الشهير الذي تصدره صحيفة (نيويورك تايمز)، لفت انتباهي فيه وجود عبارة لا تراها عادة في باقي الإعلانات، هي عبارة "شاهدها أولا ثم احكم عليها"، وهي عبارة كان يفترض أن يكون جمهور الملحق من متابعي العروض المسرحية قد تجاوزها، خصوصا بعد السنين الأخيرة التي شهدت عرض مسرحيات تتجاوز كل الخطوط الحمراء الدينية والسياسية والإجتماعية، وعلى راسها مسرحية (كتاب المورمون) الكوميدية التي تلاقي نجاحا ساحقا منذ بدء عرضها برغم سخريتها الشديدة من كل الأديان السماوية، بل والأرضية أيضا، أو حتى مسرحية (شهادة ماري الأخيرة) التي قدمت عام 2014، ولاقت ردود فعل رافضة لها من بعض المنظمات الدينية المسيحية ـ كنت قد كتبت عن تجربة حضوري لهذه المسرحية قبيل اغلاقها في كتابي (في أوروبا والدول المتخلفة) ـ لكن ذلك الرفض لم يتسبب في منعها، بل أدى فقط إلى انصراف الجمهور عنها وتقصير مدة عرضها لمدة شهر واحد، وقد كنت خلال ذلك الشهر بالصدفة مقيما في نيويورك بالقرب من المسرح الذي يعرضها، ولا أذكر طيلة مروري إلى جوار المسرح أنني شاهدت وقفة احتجاجية تهاجم المسرحية أو تهتف ضد فريق عملها، على عكس ما حدث مع أوبرا (موت كلينجوفر) التي يبدو أنها تطاولت على ما هو أخطر من المقدسات الدينية، ألا وهو وجهة النظر الصهيونية المعتمدة للدراما الفلسطينية.
قبل أن أذهب لحضور ليلة افتتاح أوبرا (موت كلينجوفر)، كنت قد قرأت في الصحف عن توقعات بأن تكون هناك وقفات احتجاجية ضد الأوبرا، لكنني لم أتوقع أن يكون المحتجون بالمئات، وأن يكونوا منظمين للغاية، كان واضحا من مشاهدة طريقة لبس أغلبهم حرصهم على ارتداء الطاقية اليهودية ورفع أعلام اسرائيل في نفس الوقت، وكان واضحا أن مجيئهم للإعتراض بكل هذا الحماس، ليس اعتراضا على الطريقة الفنية للأوبرا، بقدر كونه اعتراضا يختلط فيه الديني بالسياسي، وقد ذكرني حماس بعض المحتجين المبالغ فيه وهو يهتف ضد الأوبرا، بحماس بعض الإخوة من أنصار تيارات الشعارات الإسلامية عندما حاصروا مدينة الإنتاج الإعلامي عام 2013، ووقف أحدهم ليهتف ملوحا بالمطواة بهتافه الشهير الذي صار مثلاً: "أنا وهبت نفسي لله يا ولاد المتن..."، بالطبع لم أشاهد هتافا مماثلا يقول فيه أحد المحتجين "أنا وهبت نفسي لإسرائيل ياولاد المتن..."، ولم يكن هناك ذبائح للشوي ولا أناجر فتة ولا حمامات منصوبة إلى جوار الأوبرا ولا حاخامات يستلقون على الأرض ليرتاحوا من وخم أكل الفتة، لكن الغضب العارم الذي رأيته على وجوه المتظاهرين أمام دار الأوبرا كان يشبه ذلك الغضب الذي رأيناه في بلادنا، والذي يجعل صاحبه يتعامل مع العمل الفني أو الأدبي الذي يرفضه بوصفه مسألة شخصية تمس وجوده في هذا الكون، ولا يمكن له التصالح مع الوجود بدون إزالة هذا العمل منه.
الاحتجاج الذي بدأ قبل ساعات من عرض الأوبرا ليلا، بدأ بلمسة مبتكرة حاول بها المحتجون إحراج إدارة الأوبرا أمام الرأي العام، حين قاموا بإحضار عدد كبير من الكراسي المتحركة وضعت فارغة أمام الأوبرا، لتذكر الحاضرين بمعاناة كلينجوفر الذي لقي حتفه بشكل مأساوي في حادث الإختطاف، ثم جلس على الكراسي عدد من كبار السن المقاربين له في العمر، لكن الأمر لم يقتصر على هذه الرسالة الرمزية، التي ردت عليها إدارة الأوبرا بالتذكير أن أفيش العمل يكثف الفعل البشع الذي حدث لكلينجوفر حيث يقدم صورة لكلينجوفر يجلس على كرسيه المتحرك ومسدس الإرهابي مصوّب نحو رأسه من الخلف.
مع اقتراب موعد الافتتاح كان عدد الجموع المحتشدة قد فاق المتوقع، مما أربك المرور في المنطقة المجاورة، وجعل شرطة نيويورك تقوم بتخصيص الجزيرة المواجهة للأوبرا لكي يقف فيها المحتجون، لتبعدهم مساحة كافية عن الداخلين إلى العرض، حتى أنني فشلت في الحصول على صورة واضحة لهم حين حاولت تصويرهم بعد أن عبرت من المدخل المخصص للجمهور، لأكتفي بمراقبتهم من بعيد والإستماع إلى هتافاتهم الغاضبة التي تتهم مدير المتروبوليتان بيتر غيلب بأنه مع الإرهاب، وتنادي بالفصل بين "التينور" و"التيرور"، ولا تترك مجموعة من الداخلين لحضور العرض إلا ولاحقتها بهتافاتها الغاضبة، لأجد نفسي بعد تأمل كل ذلك أضحك من قلبي فيسألني أحد أصدقائي الذي أثارت أيضا حملة الهجوم اهتمامه بالعرض عما يضحكني، فأردد له مقولة حزلقوم التي تخيلتها: "الله طلع عندهم متخلفين زيينا".
على أية حال، هو تخلف حقا، لكنه تخلف منضبط، ليس برضا أصحابه، بل رغما عن أنوفهم، فالقانون هنا يتيح للمتخلف أن يضغط بما شاء لمنع عرض العمل الفني، دون أن يتجاوز حدوده القانونية بممارسة العنف المادي أو البدني أو اللفظي، لذلك ظلت الحشود المعترضة واقفة لساعات تهتف وتخطب وتوزع المنشورات، دون أن يجرؤ أحد على إعاقة دخول أحد إلى المكان، فضلا عن قذف مبنى الأوبرا بالحجارة أو إحراقه وخطف ممثليه، وما إلى ذلك من أمارات تخلفنا الجميل، صحيح أن إدارة الأوبرا كما نشرت مجلة (النيويوركر) أعلنت عن تلقي بعض صناع العمل لتهديدات، لكن التحقيقات حسب ما تابعت لم تتوصل إلى مصدرها ولم تؤكد جديتها، ولم تتمكن من إيقاف العرض حتى الآن على الأقل.
صحيح أن الضغوط القوية لم تفلح في إيقاف عرض الأوبرا، لكنها نجحت في إجبار الإدارة على حذف مشهد من الأوبرا في تصرف غير مسبوق في تاريخ المتروبوليتان، حيث قالت الإدارة أن عرض المشهد كان سيؤدي إلى سوء فهم غير مقصود يشوش على فكرة المسرحية، خاصة أن المشهد المحذوف يقدم ما تم اعتباره سخرية من حياة بعض يهود نيويورك الذين كان كلينجوفر منهم، بشكل رأى المعترضون على الأوبرا أنه يصورهم بشكل تافه مقارنة بالحالة المأساوية التي يقدم بها الفلسطينيين، مما يشكل تبريرا لفعلهم الإرهابي باختطاف السفينة، في حين رد صناع الأوبرا بأن المقصود من المشهد كان التأكيد على اختلاف العالم الذي قدم منه كلينجوفر اختلافا كاملا عن العالم المليئ بالمعاناة الذي جاء منه طرفا الصراع في الشرق الأوسط.
لم تكتف إدارة المتروبوليتان بحذف ذلك المشهد، بل قامت في خطوة أقوى تأثيراً بإلغاء عرض الأوبرا ضمن برنامجها السينمائي الشهري الذي يتم فيه عرض أهم أعمال المتروبوليتان في حفلات سينمائية في العديد من دور السينما في الولايات المتحدة والعالم، لكي تصل الأوبرا فقط لمن يستطيع حضورها فقط داخل مقر دار الأوبرا في نيويورك، وهو قرار برره مدير المتروبوليتان بيتر جيلب في حديثه لصحيفة النيويورك تايمز قائلا أنه اتخذ القرار لأنه شعر أن إذاعة الأوبرا لجمهور أوسع ليس مناسبا في توقيت كهذا ترتفع فيه نبرة معاداة السامية خصوصا في أوروبا، دون أن يدرك تناقض هذا القرار مع تأكيداته الدائمة هو وصناع العمل على أن الأوبرا ليس فيها أي شكل من أشكال معاداة السامية، وبالطبع لم يقل مدير المتروبوليتان أن قراره لم يكن له علاقة بمعاداة السامية المزعومة، بقدر ما كان وراءه الخوف من تهديدات كبار المتبرعين للمتروبوليتان، والذين يمكن أن يضعوه في مأزق حرج لو نفذوا تهديداتهم بسحب تمويلهم للمتروبوليتان.
قرار المتروبوليتان لقي العديد من الإعتراضات من المهتمين بحرية الفكر والتعبير، كان من بينها إطلاق حملة توقيعات على موقع منظمة (مؤشر على الرقابة) الدولية المتخصصة في دعم حرية التعبير والتي وصفت القرار بأنه ضربة قوية للحرية الفنية، وطالب بيانها إدارة المتروبوليتان بالتراجع عن قرارها، مؤكدا على ضرورة أن تتشجع المؤسسات الفنية خصوصا تلك التي تمتلك تأثيرا كبيرا مثل المتروبوليتان، "لتقوم بضمان حرية التعبير وتشجيع النقاش المفتوح، بدلا من الرضوخ لضغوط جماعات المصالح، لأن إتاحة الوصول إلى الفنون ذات المضمون المختلف الحر هو جزء ضروري لخلق مجتمع حر ومنفتح"، وقد أدانت المنظمة محاولة مدير المتروبوليتان تصوير قراره بأنه مساومة مقبولة هدفها الحفاظ على عرض الأوبرا، ليس فقط لأن قراره سيؤدي إلى تخفيض عدد مشاهدي هذا العمل الفني المهم، بل لأنه يشكل سابقة خطيرة لتقنين سيطرة المال والنفوذ على المحتوى الذي تقدمه الأعمال الفنية.
في تغطيته للحدث حاول موقع منظمة (مؤشر على الرقابة) تنبيه الجمهور اليهودي الذي تعرض لحملة إعلامية لإقناعه بمعاداة العمل للسامية، إلى أن قيام المنظمات التي حاربت عرض الأوبرا وعلى رأسها رابطة مكافحة التشهير بمنع البث السينمائي لهذا العمل، لا تقتصر خطورته فقط على تقييد حرية التعبير، بل إنه يدعم بشكل مباشر الحجج التي يقولها المعادون للسامية حول العالم، والذين يؤكدون على أن ايهود يقومون بفرض تأثيرهم ونفوذهم على أي مناقشة لما يحدث في الشرق الأوسط، وأن أفضل طريقة للرد على هذه الأقاويل هي قيام إدارة المتروبوليتان بالتراجع عن هذا القرار، وترك الجمهور ليحكم على العرض، وهو ما يؤكد الموقع أنه لن يتم إلا لو تمت مواجهة القرار بقوة من قبل أطياف الرأي العام المناصرة لحرية التعبير، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، ولا أظنه سيحدث بسهولة، لكن حملة التوقيعات والأصوات التي عبرت عن استياءها مما حدث، تشكل دون شك حدثا فارقا في مواجهة النفوذ الصهيوني الذي يمنع تقديم أي نبرة مختلفة لمناقشة "المأساة الفلسطينية"، حتى لو كانت نبرة تحمل الكثير من الظلم للفلسطينيين، كما حدث في أوبرا جون ويليامز التي فهمت عندما شاهدتها لماذا ظل المسئولون عن الأوبرا يناشدون جميع الغاضبين عبر التغطيات الصحفية والإعلانية ألا يتسرعوا في الحكم وأن يؤجلوه لبعد المشاهدة، ليتضح أنهم كانوا بالفعل يعنون ما يقولونه، ومع ذلك فلم يسلموا من حدوث عدد من المهازل بعد أن بدأ عرض الأوبرا.
ما إن وضعت قدمي في طابور الداخلين إلى مسرح أوبرا المتروبوليتان لحضور عرض (موت كلينجوفر) حتى أدركت أن الكارهين للعرض والمطالبين بوقفه، لم يتجمعوا فقط في تلك المساحة التي خصصت لهم أمام دار الأوبرا، فقد كان جليا أن عددا لا بأس به منهم يقف معنا في انتظار الدخول إلى المسرح، دون أن يبدي هؤلاء اكتراثا باخفاء غضبهم وكراهيتهم، بقدر ما حرصوا على التعبير عنه من خلال أحاديثهم العصبية عالية الصوت، ونظرات الغضب التي يصوبونها لمن حولهم، وشعارات الإدانة التي وضعها بعضهم على ما يرتديه من ملابس.
كان ملفتا أن أرى وسط الحشود امرأة سمراء ثلاثينية ترتدي الحجاب، ومعها شاب أصغر منها عمرا ملامحه شرق أوسطية، يجولان بين الحضور وقد ارتدى كل منهما "تيشيرت" مكتوبا عليه بالإنجليزية (أوبرا تناصر القاعدة.. ما القادم إذن؟.. أوبرا عن داعش)، كان منظرهما وهما يتجولان وسط الحشود بحماس يتسول لفت الإنتباه، مغريا بمناقشتهما حول الكيفية التي استنتجا فيها علاقة الأوبرا بالقاعدة تحديدا، لكنني قررت أن أستوقفهما لأقول لهما بابتهاج مبالغ فيه أنني أهنئهما على الفكرة الرائعة، وأنني كمشاهد أتحرق شوقا إلى رؤية أوبرا عن داعش، لأنها لا تقل درامية ولا إثارة عن موضوع أوبرا (موت كلينجوفر)، لتنالني منهما نظرات إزدراء سارعا بعدها بالإبتعاد، لكي لا يضيع وقتهما المكرس لإثبات أن من الممكن أن تكون مسلما وتقف مع المنظمات الصهيونية ضد أوبرا، خاصة وأن لنا باعاً كبيراً في الوقوف ضد الأعمال الفنية والأدبية.
كان التحفز يسيطر على الأجواء داخل المسرح الذي كان مليئا بأفراد الأمن الخاص بل وببعض ضباط الشرطة الذين فهمت أنهم حضروا لأن إدارة الأوبرا تتوقع وجود أشخاص قادمين لإفساد العرض، لم تكتمل بهجتي بالحصول على كرسي قريب من الخشبة، حين أدركت أن نصيبي أجلسني إلى جوار ثلاثة أشخاص كان يبدو عليهم التحفز الشديد ضد الأوبرا منذ وصلوا إلى مقاعدهم، أحدهم رجل عجوز يرتدي الطاقية اليهودية ويبدو أن كثيرا من الحاضرين يعرفونه ويحيونه باحترام شديد، يساعده على المشي فتى صغير ربما كان في الثانية عشر من العمر وتعلن سوالف الشعر الطويلة المتدلية من جانبي وجهه عن اعتزاز بهويته، أما الثالث فقد كان رجلا ضخما مفتول العضلات محمر العينين، حتى أنه ذكرني لأول وهلة بأولئك الذين وصفهم خامد الذكر الصحاف بـ "العلوج الأوغاد"، ومع أنه لم يكن يبدو من شكله أنه متدين، لكنه كان مشغولا بتوزيع نظرات الكراهية ليس لي فقط، بل ولكل جالس حولنا يبدو عليه أنه من "الأغيار" المؤيدين لعرض المسرحية، حتى أنني قررت أن أسميه (تأبط شرا) عندما بدأت مناكفته لي بأن داس على قدمي مرتين دون اعتذار، قبل أن يزيح ذراعي عن مسند الكرسي المشترك بيننا، ربما لأنه توسم في ملامحي أنني سهل الإستفزاز وربما انجررت إلى خناقة معه تساعده على فش غله بتحطيم أنفي أو نضارتي، وهو ما لم أمكنه منه بصبري الإستراتيجي الذي جعلني أتجاهله وأركز في قراءة برنامج العرض.
نكمل غداً بإذن الله