تتنوع مبادرات التكافل ويزداد عددها داخل المجتمع العراقي الذي بدا أخيراً أكثر تماسكاً من أي وقت مضى، وأحواله مغايرة تماماً وقادراً على عزل نفسه عن صراع الأحزاب السياسية على المناصب داخل الحكومة العراقية، وعن لعبة المحاصصة الطائفية.
ويقول ناشطون عراقيون إن العراق شهد خلال أقل من شهر أكثر من 800 حملة ومبادرة إنسانية جماعية وفردية استهدفت الفقراء والمحتاجين في مختلف مدن البلاد.
أستاذ الرياضيات السبعيني خميس علي أحد، أحد الذين شاركوا في تلك المبادرات من خلال فتح صف دراسي للتلاميذ غير القادرين على دفع ثمن الدروس الخصوصية، أو الطلبة الذين يعانون ضعفاً بمادة الرياضيات، وذلك في أحد الأحياء الشعبية بمدينة كركوك شمالي بغداد، ما جعل رصيف داره مكتظاً بهم أوقات العصر.
ويقول علي الذي أحيل إلى التقاعد منذ سنوات طويلة، لـ"العربي الجديد"، إنه يرغب بإكمال رسالته وعدم جعل التقاعد سببا لوقفها، مبيناً أن "الرغبة في تقديم دروس مجانية لأبناء كركوك كانت فكرة قائمة لديه منذ فترة، ومع اقتراب موعد الامتحانات النهائية باشرت بتقديم تلك الدروس على الرصيف، ولو كان منزلي واسعا لأدخلتهم لكن الرصيف هو الخيار المناسب والمتاح حالياً".
الأستاذ خميس الذي يحرص على أن يكون بكامل أناقته كما كان في المدرسة، يقصد رصيفه الدراسي اليوم أكثر من 50 طالباً وطالبة من طلاب المرحلة الابتدائية، بعد أن كان عددهم في الأيام الأولى لا يتجاوز الخمسة عشر تلميذاً، ويجتمعون أمام سبورة مثبتة بجدار منزله. ويؤكد أن طلابه وهم من مختلف مكونات كركوك القومية يحرصون على الحضور بموعد ثابت، ويجلب كل واحد منهم كرسيه من منزله يجلس عليه خلال تلقيه الدروس. ولا يكتفي علي بتعليم تلاميذه الرياضيات، بل يساعدهم بعد انتهاء الدروس في ما يحتاجون له من دعم في مواد اللغة العربية والعلوم والمجتمع.
ويبيّن أنه يسعى أولاً وأخيراً عبر حملته هذه "لإرضاء الله تعالى من خلال تقديم الدروس المجانية للتلاميذ". ويلفت إلى أن هذه المبادرة أعطت الدافع لأهالي الحيّ لإرسال أبنائهم لغرض التعلم، مبيناً أنه يساهم برفد الطلبة بالمعلومات وفقا لطرق تربوية وعلمية.
ويشير إلى أن "بعض الطلبة يتخوفون من قاعات الامتحان، وأنا أعمل على تهيئتهم لأداء الامتحانات بصورة مشابهة لما يوجد في قاعة الامتحان الحقيقية".
ويعاني قطاع التعليم في العراق من انهيار واضح منذ عام 2003 رغم تخصيص أكثر من 30 مليار دولار خلال الفترة ذاتها لدعم القطاع. ويرجع مسؤولون ذلك إلى الفساد المستشري في البلاد، إذ يفتقد القطاع إلى المدارس والتجهيزات اللازمة ما يرفع عدد الطلاب في الصف الواحد إلى أكثر من 65 طالباً بدلاً من 25 طالباً.
مقابل ذلك انتعش قطاع المدارس الخاصة انتعاشاً كبيراً في السنوات الماضية ما سبب انتقال أعداد كبيرة من طلاب المدارس الحكومية إلى الخاصة.
سارة من تلاميذ الصف الدراسي على الرصيف، تقول إنها استفادت من الدروس اليومية أكثر مما استفادت في المدرسة. وتضيف لـ"العربي الجديد"، "بعد أيام أدخل الامتحانات وأنا مستعدة نفسياً، ومسائل كثيرة فهمتها، ودروس أخرى غير الرياضيات ساعدنا الأستاذ خميس في معرفتها، ونحن نشكره شكرًا كثيراً لأنه يدرسنا مجانا".
ولاقت هذه الطريقة في التدريس استحساناً كبيراً من ذوي الطلبة، وطالبوا الكوادر التدريسية الأخرى بالسير على نهج هذا المعلم الذي أثبت أن إزالة العوائق أمر ممكن بوجود الإرادة.
ويقول أحد ذوي الطلبة ويدعى حسام يوسف، في تصريح لـ"العربي الجديد"، "إنّ الأستاذ خميس علي قدم لنا معروفا لن ننساه". ويضيف "نشهد أنه أغرقنا بجميله فتدريس أبنائنا مجانا، لا يمكن أن يكون إلا من شخص نبيل، خاصة وأنه قدم كل ما يملكه لأبنائنا".
عضو مجلس كركوك محمد العبيدي، اعتبر الحملات الإنسانية والمبادرات المستمرة أفضل دواء لجراح المجتمع العراقي، مضيفا، أن "مبادرة التدريس مجاناً لا تفرق بشيء عن توزيع المال للناس بالشوارع، واستمرار مثل هذه المبادرات يعني أن المجتمع العراقي بدأ يستعيد عافيته ويضمد جراحه بنفسه، وأنه أدرك معادلة صراع الأحزاب السياسية، فعزلها عنه وعن حياته اليومية".