13 نوفمبر 2024
مع رحيل زيغمونت باومان
من الطبيعي، بعد رحيل عالم الاجتماع البولندي، زيغمونت باومان، يوم 9 يناير/ كانون الثاني الجاري، عن 91 عامًا، أن تتركز الأنظار أكثر شيء على أطروحته المتعلقة بـ"الحداثة الصلبة" و"الحداثة السائلة" التي قدمها بديلاً لأطروحة الحداثة وما بعد الحداثـة الأوسع تداولًا.
وقبل وفاة باومان بأسابيع، تطرّق إلى هذه الأطروحة، في "العربي الجديد"، خليل العناني، وهو يتقصّى دلالات اغتيال السفير الروسي لدى تركيا ("القتل في زمن اللايقين"، 22/12/2016). ولفت إلى مؤلفات باومان المثيرة برأيه للتأمل والتفكير التي تبدأ بالحداثة السائلة، مرورًا بالحياة السائلة، والزمن السائل والخوف السائل، مشيرًا إلى أن من بين أفكارها الرئيسية غياب اليقين وانتقال البشرية إلى مرحلةٍ من المجهول، على عكس كل ما بشّرت به الحداثة وأفكارها ومفكّروها، والتي انتقلت بالبشرية من الإيمان المطلق بالعقل وملكاته الطبيعية وقدرته على التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، إلى حالةٍ سائلةٍ من الشك وفقدان القدرة على هذا التمييز.
بيد أن ميراث باومان ينطوي على أمورٍ شتى أخرى، مثيرة للتأمل والتفكير، بينها سيرة حياته نفسها.
ولدى بحث عشوائيّ سريع عما جرى تناوله من هذه السيرة في الإعلام العربي الإلكتروني، بالتزامن مع وفاته، عثرت على صيغةٍ شبه موحدة، مؤداها: ولد باومان في بولندا عام 1925، ودرس علم الاجتماع في مرحلة دراسته الجامعية، وعمل بعد تخرجه أستاذًا جامعيًا في هذا التخصّص، وفي 1971 خرج مطرودًا من بلده، بعد أن عارض النظام الشيوعي فيه، واستقر في إنكلترا، حيث عمل أستاذًا لعلم الاجتماع في جامعة ليدز. وتجنّبت هذه الصيغة ذكر أن باومان، بعد طرده من بولندا، هاجر إلى إسرائيل عام 1968، وعمل أستاذًا في جامعتي تل أبيب وحيفا سنوات قليلة، قرّر بعدها أن يغادرها إلى الأبد وأن يستقرّ في إنكلترا.
لم يكن باومان ضنينًا بتوجيه النقد الحادّ إلى دولة الاحتلال، مع أنه لم يتعاطف مع الحركة العالمية الداعية إلى مقاطعتها. وورد أغلب نقده في مقالات ومقابلات صحافية. ومن تجلياته قوله، عام 2011، إن إسرائيل غير معنية بالسلام قطّ، وإن ساستها يرتعدون خوفًا من احتمالات حلول السلام، لأنهم لا يعرفون كيف يعيشون من دون حربٍ وتعبئةٍ عامة. وفي المناسبة نفسها، أكد أن هؤلاء الساسة يستغلون الهولوكوست لتبرير ممارساتٍ (ضد الفلسطينيين) لا يمكن تبريرها، وأن النشء الجديد في دولة الاحتلال يتربّى، تحت وطأة مناهج التعليم وبرامج التنشئة الاجتماعية الرسمية، على استبطان أن ديمومة حالة الحرب والجهوزية العسكرية طبيعية وحتمية.
في عام 2013 أدلى باومان بمقابلة مطولة إلى صحيفة هآرتس العبرية، كرّر فيها أن جدار الفصل العنصري الذي يسوّر مناطق الضفة الغربية يحيل إلى دلالة الجدار الذي كان يحيط بغيتو وارسو. وأضاف أن قرار إقامة جدارٍ يفصل بين يهود وفلسطينيين خاضعين للاحتلال يعني أن هتلر انتصر حتى بعد موته، لكونه تغيّا "دفع اليهود نحو الانعزال ومواجهة العالم أجمع".
سبق أن عبر عن مثل هذه المقاربة أيضًا أبراهام بورغ، الرئيس الأسبق للكنيست الإسرائيلي والوكالة اليهودية وأحد أبرز القادة السابقين في حزب العمل، في كتابه "لننتصـر على هتلر" (مترجم إلى العربية)، حيث أعرب عن اعتقاده بأن هتلر انتصر بمجرّد أن أصبح وجود المحرقة النازية طاغيًا على كل شيء في كينونة دولة الاحتلال الراهنة، إلى درجة الشعور بأن الصدمة النفسية التي أحدثتها المحرقة هي أشبه بمرضٍ عضال، يستحيل معالجته، أو الشفاء منه. وهي مقاربةٌ تنسجم، بكيفية ما، مع أخرى ترى أن مجتمع دولة الاحتلال يشهد، في الآونة الأخيرة، ظواهر شبيهة، إلى حد كبير، بظواهر شهدتها أوروبا، وخصوصًا ألمانيا قبل عشرات السنين، كما قال نائب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، اللواء يائير غولان، أخيرًا، وكما يؤكد غيره من الأوساط الأكاديمية، وهو ما يحتاج إلى عودة لاحقة.
وقبل وفاة باومان بأسابيع، تطرّق إلى هذه الأطروحة، في "العربي الجديد"، خليل العناني، وهو يتقصّى دلالات اغتيال السفير الروسي لدى تركيا ("القتل في زمن اللايقين"، 22/12/2016). ولفت إلى مؤلفات باومان المثيرة برأيه للتأمل والتفكير التي تبدأ بالحداثة السائلة، مرورًا بالحياة السائلة، والزمن السائل والخوف السائل، مشيرًا إلى أن من بين أفكارها الرئيسية غياب اليقين وانتقال البشرية إلى مرحلةٍ من المجهول، على عكس كل ما بشّرت به الحداثة وأفكارها ومفكّروها، والتي انتقلت بالبشرية من الإيمان المطلق بالعقل وملكاته الطبيعية وقدرته على التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، إلى حالةٍ سائلةٍ من الشك وفقدان القدرة على هذا التمييز.
بيد أن ميراث باومان ينطوي على أمورٍ شتى أخرى، مثيرة للتأمل والتفكير، بينها سيرة حياته نفسها.
ولدى بحث عشوائيّ سريع عما جرى تناوله من هذه السيرة في الإعلام العربي الإلكتروني، بالتزامن مع وفاته، عثرت على صيغةٍ شبه موحدة، مؤداها: ولد باومان في بولندا عام 1925، ودرس علم الاجتماع في مرحلة دراسته الجامعية، وعمل بعد تخرجه أستاذًا جامعيًا في هذا التخصّص، وفي 1971 خرج مطرودًا من بلده، بعد أن عارض النظام الشيوعي فيه، واستقر في إنكلترا، حيث عمل أستاذًا لعلم الاجتماع في جامعة ليدز. وتجنّبت هذه الصيغة ذكر أن باومان، بعد طرده من بولندا، هاجر إلى إسرائيل عام 1968، وعمل أستاذًا في جامعتي تل أبيب وحيفا سنوات قليلة، قرّر بعدها أن يغادرها إلى الأبد وأن يستقرّ في إنكلترا.
لم يكن باومان ضنينًا بتوجيه النقد الحادّ إلى دولة الاحتلال، مع أنه لم يتعاطف مع الحركة العالمية الداعية إلى مقاطعتها. وورد أغلب نقده في مقالات ومقابلات صحافية. ومن تجلياته قوله، عام 2011، إن إسرائيل غير معنية بالسلام قطّ، وإن ساستها يرتعدون خوفًا من احتمالات حلول السلام، لأنهم لا يعرفون كيف يعيشون من دون حربٍ وتعبئةٍ عامة. وفي المناسبة نفسها، أكد أن هؤلاء الساسة يستغلون الهولوكوست لتبرير ممارساتٍ (ضد الفلسطينيين) لا يمكن تبريرها، وأن النشء الجديد في دولة الاحتلال يتربّى، تحت وطأة مناهج التعليم وبرامج التنشئة الاجتماعية الرسمية، على استبطان أن ديمومة حالة الحرب والجهوزية العسكرية طبيعية وحتمية.
في عام 2013 أدلى باومان بمقابلة مطولة إلى صحيفة هآرتس العبرية، كرّر فيها أن جدار الفصل العنصري الذي يسوّر مناطق الضفة الغربية يحيل إلى دلالة الجدار الذي كان يحيط بغيتو وارسو. وأضاف أن قرار إقامة جدارٍ يفصل بين يهود وفلسطينيين خاضعين للاحتلال يعني أن هتلر انتصر حتى بعد موته، لكونه تغيّا "دفع اليهود نحو الانعزال ومواجهة العالم أجمع".
سبق أن عبر عن مثل هذه المقاربة أيضًا أبراهام بورغ، الرئيس الأسبق للكنيست الإسرائيلي والوكالة اليهودية وأحد أبرز القادة السابقين في حزب العمل، في كتابه "لننتصـر على هتلر" (مترجم إلى العربية)، حيث أعرب عن اعتقاده بأن هتلر انتصر بمجرّد أن أصبح وجود المحرقة النازية طاغيًا على كل شيء في كينونة دولة الاحتلال الراهنة، إلى درجة الشعور بأن الصدمة النفسية التي أحدثتها المحرقة هي أشبه بمرضٍ عضال، يستحيل معالجته، أو الشفاء منه. وهي مقاربةٌ تنسجم، بكيفية ما، مع أخرى ترى أن مجتمع دولة الاحتلال يشهد، في الآونة الأخيرة، ظواهر شبيهة، إلى حد كبير، بظواهر شهدتها أوروبا، وخصوصًا ألمانيا قبل عشرات السنين، كما قال نائب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، اللواء يائير غولان، أخيرًا، وكما يؤكد غيره من الأوساط الأكاديمية، وهو ما يحتاج إلى عودة لاحقة.