مع وفاة المؤرّخ زئيف شطرنهيل
في أكثر من مناسبة في الماضي، وجدنا في مقاربات المؤرّخ الإسرائيلي زئيف شطرنهيل، الذي توفي أخيرا عن 85 عامًا، ما يمكن أن نستأنس به لتوصيف صيرورة دولة الاحتلال المرتبطة، من وجهة نظره، بما كان في الماضي وما كان ينبغي أن يصير ولم يصر، سواء ما يرتبط بالتحولات الداخلية، أو ما يتعلق بقضية فلسطين ومواقف الحركة الصهيونية.
في إحدى هذه المناسبات، أشار كاتب هذه السطور إلى استنتاج مبكّر له، مؤدّاه أن قيادة الحركة الصهيونية التي تولت، عمليًا، إنشاء إسرائيل عام 1948، تجنبّت على نحو عامد المبادرة إلى ما سمّاه "تأسيس مجتمع سياسي ذي أجندة ليبرالية عامة". وبذا ظلّت "القيم اليهودية"، من ناحية سلم الأولويات، تحتل مرتبة متقدمة كثيرًا على مرتبة القيم العالمية، وخصوصًا قيم حقوق الإنسان. وبسبب خيار القيادة هذا، أصبحت فاقدة القدرة على اعتبار عام 1949 (وُقعت خلاله اتفاقيات الهدنة مع الدول العربية) بمثابة نهاية مرحلة الاحتلال والتوسّع الجغرافيّ. وبناء على ذلك، كانت الحروب التي خيضت ناجمةً أساسًا عن عدم توفر القدرة والرغبة في تحديد الوجهة التي يتعيّن المُضي نحوها.
وكانت لشطرنهيل كذلك استنتاجاتٌ لاحقةٌ مستندةٌ إلى ما استجدّ من تحوّلات خلال الأعوام القليلة الفائتة، منها: أن خرافة "الحق التاريخي اليهودي في فلسطين" أفقدت، وما زالت تُفقد، أجزاء كبيرة من المجتمع الإسرائيلي رُشدها؛ أن ما يُعرّف بأنه معسكر الوسط ـ اليسار في الوقت الحالي ورث العجز الفكري عن حزب العمل، وهو يقف الآن عاجزًا عن وضع وطرح بديل أيديولوجي لسياسة الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967؛ أن الاحتلال (منذ 1967) هو أساس الصراع والحروب مع الفلسطينيين وأصلهما. وطالما لم يعترف المجتمع الإسرائيلي بحقوق متساوية للشعب الآخر المقيم في هذا البلد، فستستمر الحرب، ويتم الغرق أكثر فأكثر في واقع كولونيالي، وفي واقع أبارتهايد مكشوف وصريح، أصبحا قائميْن في الأراضي المحتلة، كما سيجري الغرق في أوهام هدّامة أيضًا، مثل الوهم بأن "القدس موحدة"؛ أنه بعد عام 1948 كان ينبغي تدشين مرحلة جديدة لـ"الدولة"، يكون الدستور رمزها الأبرز والأوضح، على أساس ما وعدت به "وثيقة الاستقلال"، وكان إلزاميًا أن يكون هذا دستورًا ديمقراطيًا يقوم على أساس حقوق الإنسان، ويضع مجمل المواطنين، لا جماعة إثنية أو دينية واحدة، في صلب الكينونتين السياسية والاجتماعية وفي مركزهما .. إلخ.
من الجدير أن يُذكر أيضًا أن شطرنهيل تعرّض يوم 25 أيلول/ سبتمبر 2008 إلى محاولة اغتيال على خلفية الأفكار السياسية التي يتبنّاها، وأنه ليس مناهضًا للصهيونية، وهو يعتقد أنه بعد ما مرّ على اليهود في أوروبا فإنهم يستحقون دولةً خاصة بهم. ولكنه في الوقت عينه من ذلك الطراز الذي يؤمن بـ"صهيونية الدولة"، ويدعم مقاربة الدولتين لتسوية الصراع مع الفلسطينيين. وسبق له أن أقرّ بأن قضية فلسطين لم تكن تهمّه حتى بداية ستينيات القرن العشرين الفائت، وبأن ما تم القيام به حتى عام 1949، والثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون من خلال النكبة كان ضروريًا، ولذا فهو لا يتضاد مع العدالة. وبدأ يهتم بهذه القضية فقط تحت وطأة الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على فلسطينيي 48 خلال الأعوام 1948 - 1966. وبعد ذلك، جاءت حرب يونيو/ حزيران 1967، وعندها تحول كل هذا الموضوع إلى موضوع مركزي في الجدل العام وفي وعيه السياسي، وهذا الأمر كان حاسمًا.
ومع كل الاستنتاجات السالفة التي قد يسعف الاستئناس بها في تشخيص تحولات الوضع الإسرائيلي، بغية معرفته لمجابهته، ما زال ينقص شطرنهيل وأمثاله من المتسلحين بأدواتٍ تحليليةٍ ملفتة، أمر جوهري، هو رؤية أن "دولة الصهيونية" نشأت بالخطيئة مع طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم، وأنه تبقى ثمّة حاجة أولًا ودائمًا للتكفير عن هذه الخطيئة، عبر الاعتراف باقترافها بداية، ومن ثم تحمّل المسؤولية الأخلاقية عن حلّ يحقق العدالة في فلسطين.