التجريب في الفن، في وجهه الصريح تخفّف من القيود والقواعد المتعارف عليها، والانطلاق نحو آفاق جديدة. أحياناً من فرط طموح مريديه، يوحي لهم بالحرية المطلقة، وإن كانت غير محبّذة، فالحرية المطلقة تعسّف مطلق، تحت شعاراتها يمارس "الحق في التجريب" دكتاتورية عبثية. فيصبح التجريب للتجريب عبئاً على الإبداع، فالفنون مقيّدة إلى جنسها وخصوصيتها، سواء كان الشعر أو الرواية، أو المسرح والسينما؛ بفضاءاتها ومجالاتها الرحبة، ولا خروج عنها، لئلا تفقد ماهياتها، التي تتحكّم بها قواعدها وأساليبها وتاريخها، وإلا تحوّلت إلى أجناس هجينة. هذا التحديد ضروري لندرك أبعاد التجريب وحدوده.
ماذا تعني الثورة، إذا لم يكن هناك ما نثور عليه؟ ولِمَ التجريب إذا لم يكن انقلاباً على المستقر، وانتقاصاً منه، وانقضاضاً عليه؟ عندما يعجز الفن عن مجاراة تعقيدات الحياة ومتغيّراتها، تنشأ الحاجة إلى تحرير التعبير، لولاها لما كان لهذه الغواية إلا أن تكون عابرة، لا تترك وراءها أثراً. إن الصراع ضد ما يقف حاجزاً عن التجدّد، لا يمكن التغلّب عليه إلا بالتورّط فيه، لا بإغفاله أو التعامي عنه.
تاريخ الفنون، تاريخ مغامراتها في التجريب، فالسينما كانت فناً وليداً في بداية القرن العشرين، وخلال مائة عام بلغت سن الرشد مراراً، من دون التنازل عن أبجديات فضاء الصورة والصوت، ولا عمّا طرأ عليها من تطوّر كصناعة، أو عن استفادتها من الفنون الأخرى، وما كانت لتستمر، إلا من خلال مغامرات رسمت ملامحها الكبرى علامات من الأفلام العظيمة، ما أعطاها دفعاً نحو محاولات تالية.
بيد أن السينما كفن جماهيري، لا تنحاز إلى أفلام يحتاج المتفرّج للاستمتاع بها إلى أدوات لفهمها، فهو يقصدها للترفيه، ولا يرغب بإجهاد فكره في سينما تنحو إلى الغموض، بينما سينما الإفصاح تعطّل إشكالات يثيرها الغموض نفسه. المشكلة أن الفيلم يصبح شأن النقاد، يتبارون على وضعه فوق المشرحة، وكلما تهافتت عليه مباضعهم، أضفوا عليه عشرات التفاسير والتأويلات.
ما يعلّمنا درساً، أنه من الغموض، يمكن استخراج كل شيء، وأي شيء. لكن ما الحقيقة، وما الإنجاز؟
هذا الدرس، لن يعود على جمهور المتفرّجين بالفائدة، إلا في الانصرف عن السينما. ما يحيلنا إلى الانقسام الرائج بين فن النخبة والفن الجماهيري، وأيضاً استعادة موضوعة التجريب، هل هي لعنة أم نعمة؟ فالمغامرون الذين اتّخذوا منه ساحة للاكتشاف، ولو ذهب بهم إلى المجهول، انفضّ عنهم الجمهور، وسجّل شباك التذاكر خسائرهم، وعانوا المصاعب مع المموّلين وشركات الإنتاج. بينما الذين اختاروا إرضاء الجمهور، ارتدّت عليهم عائدات شبّاك التذاكر بالمال والشهرة.
إذا شئنا التعقيب والمقارنة، فالمغامرون خسروا الشهرة، لكن كسبوا المجد الفني، وإذا كانت السينما تقدّمت، فعلى وقع التجارب المُلهمة لـ آيزنشتاين وفيلليني وبرغمان وتاركوفسكي وغيرهم. ولا ريب في أن الفن السينمائي كان أكثر الفنون ربحاً، بما حظي به من الفنانين الكبار.