أذكر جدّي الراحل أبو عبد الله جيداً في ثلاثة أمور لا رابع لها. الأول أنه كان آخر الرجال الذين أعرفهم ممن يضعون الطربوش الأحمر على رؤوسهم. كان الطربوش أوّل ما يخلعه عن رأسه ويعلّقه عندما يدخل إلى المنزل، وآخر ما يضعه عندما يخرج منه.
الأمر الثاني انضباطه الصارم في المواعيد، لا سيما الأكل والنوم. فقد كان هذان الموعدان مقدسين بالنسبة إليه.
أما الأمر الثالث فهو أنه كان الشخص الوحيد من عالم الكبار الذي يشاركنا اللعب بالمفرقعات النارية خلال عيدي الفطر والأضحى. وكان ذلك يحدث بعد أن نشاهد فيلم "الرسالة" الشهير للمخرج مصطفى العقاد على الفيديو، وبعد أن نحصل على "العيدية" ونغزو طنجرة الأرز باللحم والدجاج العملاقة التي تكون جدتي الراحلة أم عبد الله قد أعدّتها.
كان جدّي أبو عبد الله، في مثل هذه الأيام من العيد، هو من يشتري ويحمل كيس المفرقعات ويطلب منا، نحن الصغار في العائلة، أن نتبعه إلى الشرفة. يقف ليتناول أحد الأسهم النارية من الكيس، يمسكه بيده، ثم يشعل الفتيل بالقداحة قبل أن يعلو صوت الصفير إيذاناً بانطلاق السهم الناري من يده نحو الفضاء، حيث ينفجر بعد أن ينتهي المدى المخصّص له للطيران.
كان ذلك يحدث على وقع صورتين: صورة جدتي أم عبد الله تؤنّب جدّي بقساوة. وجدتي التي كانت ذات شخصية قوية لم يرقها يوماً هذا النوع من الألعاب، لاسيما مع الأطفال. وكانت تلعن المفرقعات، مثلما تلعن القذائف في الحرب، وكانت تقذف الذين يلعبون بها بأشنع عبارات الذم. ولم يكن جدّي نفسه ينجو من لسانها.
أما الصورة الثانية فهي صورتنا أنا وإخوتي وأبناء أخوالي وخالاتي نضع سباباتنا في آذاننا، مختبئين خلف جدّي من السهم الناري الذي كنّا نظن دائماً أنه سينفجر في وجوهنا، لا في الفضاء. صحيح أننا كنا ننبهر وقتها بما كنا نظنّها شجاعة جدّي بإمساك السهم بيده، غير أننا لم نحاول تقليده مرة. وربما كان من حظنا الجيّد أننا لم نملك هذه الجرأة ولم تكن يوماً مثار اهتمام لنا.
في سن المراهقة أقنعني رفيق دراسة من المدرسة بمشاركته في أوّل "بسطة" بيع للمفرقعات. كانت هذه البسطة أوّل عمل تجاري أقوم به. ومع أنها كانت تجارة مربحة، غير أنني لم أكرّر التجربة. فقد ثبت لي في الثالثة عشرة أنني لا يمكن أن أكون تاجراً لم يعد يحب بضاعته.
في اليومين الماضيين صدرت نتائج البكالوريا في البلد. اشتعلت الدنيا مجدداً، وكما صارت العادة، بالمفرقعات القوية والرصاص. احتفاليتنا السيئة والمؤذية التي تسبّبت في وفاة طفل بحسب ما تردّد وبمراكمة مشاعر الخوف والتوتّر لدى كثيرين.
رحم الله جدتي.
اقــرأ أيضاً
الأمر الثاني انضباطه الصارم في المواعيد، لا سيما الأكل والنوم. فقد كان هذان الموعدان مقدسين بالنسبة إليه.
أما الأمر الثالث فهو أنه كان الشخص الوحيد من عالم الكبار الذي يشاركنا اللعب بالمفرقعات النارية خلال عيدي الفطر والأضحى. وكان ذلك يحدث بعد أن نشاهد فيلم "الرسالة" الشهير للمخرج مصطفى العقاد على الفيديو، وبعد أن نحصل على "العيدية" ونغزو طنجرة الأرز باللحم والدجاج العملاقة التي تكون جدتي الراحلة أم عبد الله قد أعدّتها.
كان جدّي أبو عبد الله، في مثل هذه الأيام من العيد، هو من يشتري ويحمل كيس المفرقعات ويطلب منا، نحن الصغار في العائلة، أن نتبعه إلى الشرفة. يقف ليتناول أحد الأسهم النارية من الكيس، يمسكه بيده، ثم يشعل الفتيل بالقداحة قبل أن يعلو صوت الصفير إيذاناً بانطلاق السهم الناري من يده نحو الفضاء، حيث ينفجر بعد أن ينتهي المدى المخصّص له للطيران.
كان ذلك يحدث على وقع صورتين: صورة جدتي أم عبد الله تؤنّب جدّي بقساوة. وجدتي التي كانت ذات شخصية قوية لم يرقها يوماً هذا النوع من الألعاب، لاسيما مع الأطفال. وكانت تلعن المفرقعات، مثلما تلعن القذائف في الحرب، وكانت تقذف الذين يلعبون بها بأشنع عبارات الذم. ولم يكن جدّي نفسه ينجو من لسانها.
أما الصورة الثانية فهي صورتنا أنا وإخوتي وأبناء أخوالي وخالاتي نضع سباباتنا في آذاننا، مختبئين خلف جدّي من السهم الناري الذي كنّا نظن دائماً أنه سينفجر في وجوهنا، لا في الفضاء. صحيح أننا كنا ننبهر وقتها بما كنا نظنّها شجاعة جدّي بإمساك السهم بيده، غير أننا لم نحاول تقليده مرة. وربما كان من حظنا الجيّد أننا لم نملك هذه الجرأة ولم تكن يوماً مثار اهتمام لنا.
في سن المراهقة أقنعني رفيق دراسة من المدرسة بمشاركته في أوّل "بسطة" بيع للمفرقعات. كانت هذه البسطة أوّل عمل تجاري أقوم به. ومع أنها كانت تجارة مربحة، غير أنني لم أكرّر التجربة. فقد ثبت لي في الثالثة عشرة أنني لا يمكن أن أكون تاجراً لم يعد يحب بضاعته.
في اليومين الماضيين صدرت نتائج البكالوريا في البلد. اشتعلت الدنيا مجدداً، وكما صارت العادة، بالمفرقعات القوية والرصاص. احتفاليتنا السيئة والمؤذية التي تسبّبت في وفاة طفل بحسب ما تردّد وبمراكمة مشاعر الخوف والتوتّر لدى كثيرين.
رحم الله جدتي.