مقاربة "الشعب المستهان به"

11 ديسمبر 2015
+ الخط -
ستظل هذه المقاربة كتاباً مفتوحاً ومفضوحاً، في إطار تصورات قادة العسكر لمقولة الشعب التي تطل علينا كل فترة، في بيان هنا، أو تصريح هناك، وسيظل الشعب مقولةً يتنازع عليها أصحاب السلطة والسلطان، من باب تبرير أفعالهم، لا من باب خدمتهم، والعمل من أجل إنجاز مطالبهم وضروراتهم. الشعب كل يدّعي وصلاً به، والتعبير عن إرادته، وانتحال صفته والكلام عنه بالنيابة، وغاية أمر السلطان الذي سيفعل الأفاعيل بتلك المقولة أن يقدم السلطان معزوفة من فائض الكلام، في وصف هذا الشعب بأنه المعلم والمالك لوطنه وجيشه، وأن الانحياز للشعب وقراره من الأمور التي تتعهدها السلطة بالرعاية الحصرية.
فإن رأى بعضهم أن يعبر عن بعض مطالبه التي ترتقي إلى مرتبة الضرورات بادره أصحاب السلطة المتنعمون في أمواله وبأمواله في نطاعة وبجاحة "..منين..مفيش ..معنديش مش قادر أديك .." وسموا المطالب والحاجات والضرورات مطالب فئوية، وكأنه ليس من حق هذا الشعب أن يطلب العيش الكريم المشفوع بالكرامة الرافض للذل والعبودية المطالب بالعدالة الاجتماعية، يستكثرون عليه ذلك، على الرغم من مطالبه القليلة التي يمكن تحقيقها، بشرط أن يتفهموا مقولة الإمام عليّ بن أبي طالب "ما جاع من فقير إلا بما مُتع به غني"، ويطالب هؤلاء الذين يتنعمون بالإنفاق المستفز، فيخاطبوا هذا الشعب المسكين اصبروا، شدوا الأحزمة على البطون، هنجوع.. أيوه هنجوع ..إننا نمر من المنعطف، ونخرج من عنق الزجاجة، يطالبوه بذلك وطنية منه، وهم لا يعرفون شيئاً عن الوطن والوطنية. الوطن لديهم وسيلة أو عزبة ينهبونها حصرياً، وإن تركوا بعض الفتات فهذه رحمة منهم، وفضل من كرمهم.
هذا هو المشهد الدائم من سلطة الاستبداد تنعم بكل شيء، وتطالب الشعب بالتضحية والوطنية والفداء، فإذا جد الجد، وكانت لهم من مطالب لتمويل ترفهم، تفننوا كما أورد ابن خلدون، في مقدمته، في فرض المكوس والضرائب، فيثقل كاهلهم وتعم البطالة، وينهار السعي إلى المكاسب، وينهار كل ما يتعلق بالعمران من معاش الناس وعموم سعيهم، لا يتركهم هؤلاء إلا قد امتُكت عظامهم، ومصوا آخر قطرة من دمائهم، من دون أدنى مبالاة أو اهتمام، الشعب في عرفه محلاً للجباية الظالمة "..هتدفع يعني هتدفع..".
ومن سخرية هؤلاء بالشعب وفئاته، فإنهم يعتبرونه أداة للتسول والشحاتة، للحصول على المال "..اللي زي الرز..". الشعب وفق تصورهم ثلاثة أمور؛ هو في الوصف "..شعب جعان متنيل بنيلة .." هكذا هو في المأثورات التسريبية العباسية (نسبة إلى عباس كامل) المتصرف بلا قيد أو رقيب في شأن الوطن والشعب، وهو ثانياً محل تلاعبهم "..إحنا بنقومه ونقعده.."، لا حول له ولا قوة، يضحكون عليه، ويستدعون منهم ما أرادوا، وهم قد صنعوا هذه الحالة الموهومة الزائفة "..نأخذ اللقطة.. ونلبسه العمة.."، ما هذه الرؤية لشعب معجونة بالتدني والنظرة الدونية، والهوان والإهانة والمهانة، والسخرية والضحك عليه، قل لي بالله عليك ما هذا الشعب الذي يتصورون؟!.
خرج هذا الشعب في احتجاجات عارمة في الخامس والعشرين من يناير، وقام بثورته، وكان
الشباب شرارتها الحالمة المفعمة بالأمل في المستقبل بكرامة المواطن وترسيخ مكانة الوطن، ظل أصحاب السلطة المستبدة والسلطان الفاجر يحاولون الفهم، كيف خرج هذا الشعب المروَض من القمقم، وكيف نعيده إلى مأمنه المزعوم وأمنهم الأكيد، روج هؤلاء كل ما من شأنه أن يعتبر ما حدث في يناير ليس إلا استثناء، واصطنعوا شعاراتٍ، وأغدقوا في العلن بفائض الكلام والأوصاف لهذا الشعب، وما زلت أتذكر تلك الصورة التي حمل فيها الضابط طفلا صغيراً، وقد كُتب أسفل الصورة "الشعب والجيش إيد واحدة". الجيش ضابط كبير والشعب طفل صغير، رُوجت هذه الصورة، ولصقت على الأوتوبيسات والسيارات والمركبات.
يأتي بعضهم ليتحدث عن الشعب الذي تراكمت حاجاته وزادت آلامه، فيرد هؤلاء لا تدخلوا بيننا وبين الشعب الفخيم العظيم، نحن أدرى به وبضروراته، ونعرف عظمته في الصبر والتضحية والتحمل، ولسان حالهم يقول "شعبي وأنا حر فيه.."، ولا بأس بتحليل علاقة هذا الشعب بالجيش وتفسيرها، وهي حسب بعضهم علاقة خاصة ومميزة في التاريخ، فهذا جيش أُلحق به شعب، الجيش محور دولته. ومن المؤسف حقاً، بدلا من صياغة سوية لتلك العلاقة، تسابقت الدساتير التي تواردت على مصر إلى اعتبار الجيش حالة مميزة، وإسناد أدوار ليست له إلى دستور يجعل منه دولة داخل الدولة، إلى دستور أخير جعله دولة فوق الدولة.
أما القوى السياسية والنخبة المحنطة المنحطة والانتهازية، فإنها تكتب هجائيات في هذا الشعب، وكأنها تعايره بفقره وجهله وأميته، ولا أحد منهم يتحدث عن السبب في هذه الحال، وأنهم مشاركة مع سلطة مستبدة باطشة فاسدة، يحكمون ويضيقون الخناق على هذا الشعب، الشعب بالنسبة لهم حالة افتراضية وتصور ذهني، يستحضرونه في خطاباتهم من باب الزينة، ويهجونه عن الطلب تغطيةً لفشلهم الذريع والمريع لخدمة شعوبهم، بل يلوذون بحاضن استبدادهم، ويزينون لهم سوء عملهم وقبح سياساتهم.
تذكّرت ذلك كله في ذاكرة سوداء لتصور قادة الجيش للشعب، فهل يمكن لشعب مصر، مثلاً، أن ينسى للواء الرويني، عضو المجلس العسكري السابق، افتخاره بترديد الشائعات في أثناء الثورة ولا اتهامه المتهافت حركه 6 إبريل بالعمالة والقبض من الخارج، كما لا يستطيع نسيان الشهداء والمصابين الذين علّقت دماؤهم باللواء حمدي بدين، القائد السابق للشرطة العسكرية. وليس من السهل نسيان تصريحات اللواء مختار الملا أن الانتخابات التشريعية لا تعبر عن شعب مصر، وأن الجيش سيتدخل في كتابة الدستور، ولن يترك الأمر للأعضاء المنتخبين! هذا غير تصريحات اللواء ممدوح شاهين، طوال سنة ونصف السنة، الممتلئة بالغطرسة، والسعي بمنطق القوة، لجعل الجيش فوق الدولة المصرية بكاملها. هذا غير اللواء محمود نصر الذي تحدث عن المشروعات الاقتصادية للقوات المسلحة باعتبارها عَرَق الجيش، وتهديده من يفكر في الاقتراب منها.
تذكّرت ذلك كله من تصريح للمنقلب ليست طرفة إذن، لا يعد زلة لسان، هي حقيقة راسخة في عقول كل الجنرالات، هؤلاء الذين يحكمون مصر منذ أواسط القرن الماضي في عام 54، قال المنقلب "الشعب جزء من الجيش" كان هذا هو رد السيسي على سؤال لمذيعة "بي بي سي" العربي.
وعلى الرغم من زلات اللسان العديدة التي تعود عليها المصريون، في كل مرة، يتفوه فيها السيسي بأي كلمات، سواء في خطب أو حوارات صحافية أو لقاءات، إلا أن زلات لسانه تلك تكشف ما في عقله من خبايا.
هذه صفحة الشعب التي يجب أن تتغير في تصورها وإدراكها، الشعب لا يزال يتمتع بوعي فطري، هكذا كان احتجاجه في انتخابات هزلية برلمانية، هذا الشعب الصابر يولد من جوفه شعب ثائر، الثورة قادمة حتى يستعيد الشعب كرامته والوطن مكانته.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".