غير أن الدعوة أظهرت انقساماً مكشوفاً داخل قوى الثورة السودانية، تحديداً قوى إعلان الحرية والتغيير، بعدما أيدتها قوى وعارضتها أخرى. وأيدت جهات عدة مليونية اليوم، ومنها الحزب الشيوعي السوداني، وتجمع المهنيين السودانيين (عصب الحراك الثوري)، والتجمع الاتحادي، وكتلة قوى الإجماع الوطني. في المقابل، يقف حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، وتجمع المهنيين بتشكيلته القديمة التي لم تعترف بالتغيير الذي تمّ في قيادة التجمّع، الشهر الماضي، في الواجهة المضادة. أما حزب المؤتمر السوداني، فاتخذ موقفاً حيادياً، لعدم إصداره موقفاً من الدعوة، حتى أن لجنة الأطباء المركزية ونقابات طبية أخرى موالية للثورة، رفضت فكرة تسيير مواكب في هذه الأيام، خشية من تفشي وباء كورونا.
من جهته، أصدر تحالف قوى الحرية والتغيير بياناً أقرّ فيه الحق بخروج المليونية، مؤيداً مطالبها، قبل التحذير من سعي قوى عدة تتربص بالثورة لحرف مسار المليونية وتوجيهها لغير غاياتها. وأوضح التحالف أن اللقاءات المتواصلة مع الحكومة تتمحور حول الفترة الانتقالية، معرباً عن أمله في أن تثمر النقاشات عن صدور قرارات قوية من الحكومة، وإقرار خطوات جادة للإسراع في حسم كل الملفات العالقة، وعلى رأسها ملفات السلام في البلاد، ومعيشة الناس، وإكمال هياكل السلطة المدنية والعدالة.
ولم يكن جوهر الانقسام محصوراً في الدعوة نفسها أو في مبدأ الخروج إلى الشارع، بل عكس في حقيقته تقييم تلك المكونات لأداء الحكومة، فـ"لجان المقاومة" تعتبر أنه تمّ "اختطاف الثورة"، وأن الحكومة المنغمسة في شراكتها مع المكون العسكري، غير مهتمة بتنفيذ مطالب الثورة الحقيقية، ولم تولِ الاهتمام الكافي لملف القصاص للضحايا. أما الحزب الشيوعي السوداني فيخشى من تركّز التحالف بين الحكومة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كونه متحفّظاً أصلاً على المؤسسات الدولية وفق أيديولوجيته، فيما تهتم أحزاب أخرى بقضية فشل الحكومة في تذليل صعاب الحياة المعيشية.
غير أن ما زاد المشهد تعقيداً بعد الدعوات للمليونية، هو انتشار أنباء عن رغبة أنصار النظام السابق في الخروج اليوم أيضاً، بسبب مصادفته ذكرى استيلاء البشير على السلطة في عام 1989. وحسب ما هو متداول، فإن لهؤلاء مطالب أيضاً لا تقف عند سقف الضغط على حكومة عبد الله حمدوك، بل يدعون مباشرة لسحب البساط من تحتها وتسليم السلطة للعسكر، على أن تتشكل حكومة كفاءات لحين تنظيم انتخابات جديدة. هذه التناقضات قد تفسح المجال أمام احتمال حدوث صدام بين المحتجين من مؤيدي الثورة وأنصار النظام السابق في حال نزلوا إلى الشارع. مع العلم أن حزب المؤتمر الوطني المحظور (الحاكم سابقاً) رفض الاتهامات الموجهة إليه بأنه يريد تحويل مسار المليونية من الضغط على الحكومة لتنفيذ مطالب محددة إلى المطالبة بإسقاط حكومة عبد الله حمدوك وتسليم السلطة للجيش. ووجه أنصاره بعدم المشاركة في المليونية.
وقد قابلت الحكومة الدعوات للمليونية بجانبين سياسي وأمني. سياسياً، اجتمع حمدوك مع "لجان المقاومة" وأُسر الضحايا لطمأنتهم والتعهّد لهم بتحقيق مطالبهم. وأعقب ذلك تلقي حمدوك تقريراً مرحلياً من لجنة التحقيق الوطنية حول فض الإعتصام، فضلاً عن عقده اجتماعات مع تحالف الحرية والتغيير حول إجراء تفاهمات بشأن تعيين الولاة والمجلس التشريعي وإجراء تعديل وزاري سريع. كذلك استقبل رئيس الوزراء تجمع المهنيين السودانيين. وربما نجحت تلك التحركات في تقليل حدة المطالب وتلاشي هدف إسقاط الحكومة كوسيلة من وسائل تصحيح المسار الثوري، بينما بقيت فقط مطالب استكمال وتقييم أداء الوزراء وتصحيح نهج عملية السلام.
الجانب الآخر لتعاطي الحكومة هو تكثيف الانتشار الأمني غير المسبوق في ولاية الخرطوم، بمنع الدخول والخروج منها، أمس الإثنين، واليوم الثلاثاء، فضلاً عن إغلاق الجسور المؤدية لوسط الخرطوم، وتفريغ المنطقة من المواطنين. وسدّ كل الطرق المؤدية لمحيط قيادة الجيش، والتحذير من وجود مندسين خلال المواكب.
مع تلك الصورة، يصعب التكهن بما سيحدث اليوم. ويصرّ الخبير الشرطي عمر عثمان، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، على أن الأمور الأمنية ستسير بصورة سلسة، لسببين: الأول يعود إلى وعي المواطنين وحرصهم على تجنب العنف، والثاني مرده إلى الخطة الأمنية التي وضعت بتنسيق تام مع "لجان المقاومة" وبقية المكونات الثورية. ويوضح أنه بدا له على المستوى المعلوماتي أن القوات النظامية وضعت يدها على معلومات عن جهات راغبة في تخريب يوم 30 يونيو، وتخريب كل مسار العملية السياسية الانتقالية في البلاد. ويضيف أنها استطاعت في اليومين الماضيين إبطال مفعول تلك المخططات، مؤكداً أن اليوم سيمر بصورة طبيعية من دون اختراقات أمنية.
لكن الصحافي بكري المدني لا يستبعد بروز مغامرة عسكرية من صغار الضباط تستثمر في الغضب الشعبي وتعلن الانحياز له، معللاً ذلك بأجواء الانقسام السياسي والفشل الحكومي والهواجس الأمنية وانشغال الجيش بمواكب المليونية. ويوضح في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن السودان قبل 30 يونيو لن يكون كما بعده، متوقعاً إجراء تغييرات كبيرة في هياكل السلطة الانتقالية في مجلسي السيادة والوزراء، وحدوث انقسام داخل قوى إعلان الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية للحكومة، أو يحصل تغيير في الهيكل القيادي للتحالف.
بدوره، يعتبر القيادي في قوى إعلان الحرية والتغيير، عز العرب حمد النيل، أن الحبل السري الرابط بين الحكومة ومطالب الحراك الثوري سيكون له أثره على المشهد السياسي مستقبلاً، باستجابة الحكومة للمطالب، ومن بينها إجراء تعديل وزاري محدود وإقالة بعض القيادات الأمنية، التي أثبتت ضعفها في الأيام الماضية، وعدم ارتقاء تفكيرها لمصاف مبادئ الثورة. ويستبعد في حديثه لـ"العربي الجديد"، التوقعات باستقالة الحكومة، على اعتبار أنها ليست من أولويات مطالب الحراك، وقد تكون مجرد أمان للمتربصين في الثورة. ويشدّد حمد النيل على أنه حتى لو استقالت الحكومة، فإن ذلك لا يعني "استقالة الثورة"، بل من الممكن تشكيل حكومة جديدة بسهولة في إطار النظام الديمقراطي الذي صنعته الثورة.