همسٌ. يكثر الهمس. مذ دخل ذلك الرجل الهزيل مجلس العزاء، راحوا يتهامسون. ويراقبونه. يراقبون كيف انحنت قامته التي كانت ممشوقة في يوم، وكيف تبدّلت ملامحه وكأنّها انكمشت. مضى زمن طويل على ظهوره الأخير في العلن. مضى زمن طويل على مشاركته الأخيرة في مناسبة اجتماعيّة في الحيّ.
"مسكين!".. "ليكن الله في عونه".. "لا يستأهل كلّ ذلك"... يبلغه همس هؤلاء، فيُبقي رأسه مطأطأً. يقدّم واجب العزاء، يحضن بذراعَيه المرتجفتَين نجل الفقيد، ويذرف دموعاً غزيرة. كان رفيق طفولته وشبابه، غير أنّه اضطرّ إلى الانقطاع عنه خلال السنتَين الأخيرتَين. اضطرّ إلى الانقطاع عنه، في أكثر وقت احتاجه فيه إلى جانبه. اضطرّ إلى الانقطاع عنه، ولم يتمكّن من وداعه قبل أن يُسلم الروح إثر ذلك المرض الذي أنهكه. "لكنّني أنا كذلك، كنتُ في حاجة إليه. أنا كذلك، أنهكني المرض وما زال". تقنيّة دفاعيّة تلقّنها في آخر جلسات علاجه. لا بدّ من ردع نفسه عن "جلد نفسه". لطالما فعل، وحان الوقت ليرتدع عن ذلك.
يتّخذ مكاناً له على كرسيّ في صفّ خلفيّ. الجميع يأسف لحاله، لكنّ الجميع يبقى بعيداً. كأنّه مصاب بجرب أو طاعون. اعتاد الأمر. لذلك يفضّل البقاء بعيداً، بدوره. لكنّ هذا الصباح، ألزم نفسه بارتداء تلك البدلة الكحليّة التي غرق فيها جسده الذي ضمر. لا بدّ من وداع رفيق طفولته وشبابه، كرمى لما جمعهما في يوم. قبل سنتَين اثنتَين، أصيب الصديق بداء عضال، بـ "هيداك المرض". قبل سنتَين اثنتَين، أصيب هو بداء عضال آخر، لا يقرّ الناس ولا المجتمع بأنّه كذلك وبأنّه يستأهل عناية ورعاية خاصتَين.
كأنّنا نعيش نوعاً من إنكار، أو نخشى الإقرار بما لا يتوافق عليه ذلك المجتمع الذي تدجّنا فيه بطريقة أو بأخرى. في مجتمعاتنا العربيّة، لا نقرّ بآلام نفسيّة. في مجتمعاتنا العربيّة، لا نعترف بأمراض تصيب الذات البشريّة فتنهكها، تماماً مثلما يُنهك "هيداك المرض" خلايانا. تلك أمراض، إهمالها يعني إهمال صحّتنا. تلك الصحّة التي تنقسم بدنيّة ونفسيّة عقليّة. ونعيش الإنكار.
كلّ من تجرّأ على البوح بألم نفسيّ، هو "ممسوس" بلا شكّ. كلّ من أقدم - الأمر ما زال في حاجة إلى خطوة جريئة في مجتمعاتنا - على زيارة طبيب للأمراض النفسيّة والعقليّة أو معالج نفسيّ، هو "مجنون" بلا شكّ. لا ندرك أنّ "الجنون" حالة مرضيّة قائمة بحدّ ذاتها ومعرّفة طبيّاً، نُسقطها على كلّ اضطراب نفسيّ وعقليّ. نحن اعتدنا الإسقاطات كيفما اتّفق. لماذا يكون الأمر هنا استثناءً؟
العاشر من أكتوبر/ تشرين الأوّل الجاري، كان اليوم العالميّ للصحّة النفسيّة. خجولة كانت الفعاليات في بلداننا العربيّة، إن وجدت. ذلك الألم الذي ينهش الذات البشريّة ما زال أمراً مخجلاً.