أصبح الاقتصاد السعودي منهكاً إلى حد كبير بسبب انخفاض أسعار النفط والإيرادات، فضلا عن ارتفاع الدين العام، والإنفاق العسكري الكبير جراء الحروب بالوكالة التي تخوضها السعودية في المنطقة.
لم يعد الاقتصاد السعودي قادراً على تحمل العبء الكبير الناجم عن الدور المتنامي للمملكة في السياسات الإقليمية وتوتّر علاقاتها مع عدة دول وعدم استقرار محيطها الاستثماري الذي أصبح لوحده كفيلا بتنفير المستثمرين المحليين والأجانب.
وباتت المملكة تقف حاليا أمام مفترق طرق بين خيارين لا ثالث لهما، إما التركيز على النهوض باقتصادها أو الاستمرار بهدر ثرواتها على متطلّبات إعادة التموضع الإقليمي.
كابوس الديون
حسب بيانات صندوق النقد الدولي، قفز إجمالي الدين الحكومي العام (الداخلي والخارجي) كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في السعودية من 1.56% سنة 2014 إلى 19.97% في 2018، ومن المتوقّع أن يصل إلى 29.39% في 2023، ويرجع المستوى الذي وصل له الدين إلى تراجع أسعار النفط بالدرجة الأولى منذ 2014 وكذلك تعثّر رؤية 2030 بعد سنتين فقط من تطبيقها والتي باتت وكأنها مجرد وهم أو خرافة لا أساس لها على أرض الواقع.
ويبدو أنّ مشروع مدينة "نيوم" الذي يندرج تحت هذه الرؤية وتبلغ تكلفته نحو 500 مليار دولار، مجرد أداة لتلميع صورة المملكة خارجياً، أما بالنسبة للتنويع الاقتصادي، الهدف الأساسي لتلك الرؤية، فسيكون بطيئاً حتماً نظرا لطبيعة محيط الأعمال السعودي والضغوط الاجتماعية.
فتحقيق حلم التنويع الاقتصادي يحتاج قبل كل شيء لتهيئة ظروف اقتصادية ملائمة، فقد تقهقرت الإيرادات العامة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 36.67% سنة 2014 إلى 29.12% في 2018، وحسب توقّعات صندوق النقد الدولي لن تصل الإيرادات إلى ذلك المستوى المزدهر السابق في الخمس سنوات القادمة.
كما ارتفع التضخم من 1.27% في 2015 إلى 3.73% سنة 2018، وانخفض رصيد الحساب الجاري لميزان المدفوعات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 9.75% في 2014 إلى 5.40% خلال 2018، ويتوقّع صندوق النقد أن يتحوّل ذلك الفائض إلى عجز يقدّر بـ 2.16% سنة 2023. وما يُلاحَظ فعلاً هو أنّ المملكة تتّجه في منحدر خطير لن يزيدها إلا ديوناً.
حروب بالوكالة
تخوض السعودية عدّة حروب بالوكالة في المنطقة لاسيَّما في اليمن وسورية، نتيجة لصراعها مع إيران ورغبتها الجامحة بمزاحمة النفوذ الإيراني في المنطقة. هذه الحروب لا تُكلِّف المملكة مليارات الدولارات فقط، بل أدخلتها دوّامة لا مخرج منها بدون مواجهة مباشرة وحتميّة مع إيران أو الخضوع إلى طاولة التفاوض.
وتبشر التطورات الأخيرة (لاسيما إعادة فرض العقوبات على إيران وتهديد هذه الأخيرة بغلق مضيق هرمز الشريان الرئيسي للنفط الخليجي) بالمزيد من التكاليف التي يتوجَّب على السعودية أن تتكبَّدها وكل هذا على حساب الاقتصاد الوطني الذي هو الآن في أَمس الحاجة لتلك الأموال التي تُهدر على تلك الحروب خاصة مع شح العائدات النفطية.
فبالرغم من انعدام إحصائيات حول الإنفاق العسكري السعودي على هذه الحروب والتي إن وجدت فستفتح فوهة النار على المملكة وتطلق العنان للغليان الاجتماعي، فإن اللوحة التي شرح فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لولي العهد السعودي محمد بن سلمان القيمة المالية الخيالية للصفقات العسكرية بين البلدين كانت كفيلة بمنحنا نظرة ثاقبة للمبالغ التي أنفقتها السعودية على التسلّح والتي ستنفقها حتماً في المستقبل والتي ستحبط رؤية 2030 وستزيد من معاناة الاقتصاد السعودي والتي بدورها ستطول بسبب انشغال المملكة بأمور أخرى كحروبها بالوكالة وحصار قطر ومعاداة كندا وكذا الانسياق وراء رغبات وضغوط الرئيس الأميركي الذي لا ينفك يصدر قرارات تؤجج حالة عدم الاستقرار وتثير صراعات جديدة في المنطقة.
تعثُّر الاستثمارات
لقد دخلت السعودية في دوّامة من الخلافات الخارجية آخرها مع كندا، وهذا ما سينعكس سلباً على استقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وجاءت هذه الخلافات في الوقت الذي تتعطَّش فيه رؤية 2030 إلى دخول استثمارات هائلة، وأهم ما يبحث عنه المستثمر الأجنبي في البلد المضيف هو البيئة الاستثمارية الموثوقة والآمنة والمستقرة وهذا ما تفتقر إليه المملكة حالياً.
فقد شهدت المملكة حملة اعتقالات واسعة استهدفت عددا من الأمراء والوزراء ورجال الأعمال، وقامت بمعاداة قطر ودخلت في مراحل مستعصية من شد وجذب قد تمتدّ لدول أخرى ربما تكون الآن على لائحة الانتظار، وهذا ما يجعل أي مستثمر سواء محلي أو أجنبي يتيقن تماماً من أن المناخ الاستثماري السعودي أصبح على حافة بركان ربّما يكون الأخطر في تاريخ المملكة.
وبحسب إحصائيات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، يتضح أنّ المملكة تعاني من الفشل في جذب الاستثمارات الأجنبية فقد بلغت قيمتها 1.4 مليار دولار سنة 2017 وهو مبلغ ضعيف تماماً مقارنة بـ 16.3 مليار دولار سنة 2011 و39.4 مليار دولار في 2008، ويبقى كذلك أقلّ حتى من مبلغ الاستثمارات التي استقطبتها سلطنة عمان والمقدّر بنحو 1.8 مليار دولار في 2017، حتى قطر ورغم الحصار المفروض عليها من أربع دول عربية بقيادة السعودية تمكَّنَت وبجدارة من جذب ما قيمته 986 مليون دولار من الاستثمارات الأجنبية خلال العام 2017 وحقَّقَت زيادة قدرها 212 مليون دولار مقارنة بالعام السابق له.
وما هو مُلاحَظ من التصرُّفات المتناقضة للمملكة أنّها قد أصدرت من جهة أوامر ببيع كل أصولها المالية في كندا مهما كانت الخسائر وهذا ما يصبّ في مصلحة الكثير من المستثمرين الذين يتلهّفون للظفر بتلك الاستثمارات بأقلّ الأثمان، ومن جهة أخرى فقد طمأنت على لسان وزرائها بأنّ الاستثمارات الكندية في السعودية وإمدادات هذه الأخيرة من النفط إلى كندا لن تتأثّر بالخلافات التي نشبت مؤخرا بين البلدين.
على العموم إن استمرت المملكة في سياساتها المعقّدة فلن يصبح لخطط ولي العهد الاقتصادية والهادفة إلى جعل المملكة وجهة استثمارية أي معنى