19 أكتوبر 2024
من أهداف الثورات إلى أهداف الجماعة المسيحية
تقتضي السياسة نقاشاً في طبيعة السلطة، الدولة، الاقتصاد، وحالة المجتمع بكليته. أما أن تفتح حديثاً في التاريخ، وتتلاعب فيه، ليخدم ما تشتهيه في الحاضر، كأن تقول إن المسلمين والمسيحيين كانوا متآخين، وحجّتهم أن المثقفين السريان وظفتهم الدول العربية الإسلامية في إطار مؤسساتها فهذا ليس عين الصواب، ولا علاقة له بواقع المسيحيين حينها؛ فالنظام في سورية يواجهك بكل أنواع الأسلحة، وبرفضٍ كليٍّ لمعارضتك، ومهما كانت مواقفك السياسية، وأنت تواجهه بحديثٍ عن التآخي في التاريخ! وهناك من ينبري قائلاً: المسيحيون كانوا سابقين للمسلمين، ومنهم ليسوا عرباً من أصله، وبالتالي تعال، أيها النظام، لنجترح حلاً سياسياً، يتعالى على عالم المصالح وينطلق من مجاهل التاريخ. وبذلك نصوغ حياتنا من جديد، وتتخلى أنت عن أسلحتك، وأنت خاسر فيها، ومهما امتد بك الزمن، وتُعبر عن الشعب مجدّداً، ونشترط عليك نحن، أن تتخلى عن توظيف الطائفية في ديمومة حكمك، ونحذّرك من الاستمرار بالوهم بأن المسيحيين بل والمسلمين الذين معك سيظلون كذلك إلى يوم القيامة. لسان حالهم أيضاً، يقول: نريد أن نبدأ من جديد، ونصل حاضرك ببداية النهضة، أي حينما اتحدنا ضد العثمانيين، وبدأنا استقلالنا وعيشنا المشترك، ولولا الاستعمار الأوروبي لكنّا الآن بألف خير، وحالنا حال الدول المتقدمة. وفي كل الأحوال، نحن لا نطلب حماية من أجنبي، فهم كانوا وبالاً علينا وعليكم.
الخطاب المسكوت عنه في مؤتمر باريس للمسيحيين العرب (عقد في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي) من هذه المقدمة، وإن كان يعلن أن الداعين له ضد النظام في سورية، ويستهدفون تغييره. وهناك جانب لهذا الخطاب، ويتضمن أننا، كمسلمين ومسيحيين، ضد النظام وضد توظيف الطائفية، ونتوق مجتمعين لتشكيل دولة مدنية وللجميع؟!
يتضمّن بيان المؤتمر، وكذا كلمات المشاركين فيه، تحريفاً في التاريخ، ودفاعاً عن دولة مدنيةٍ
تنصف كل أفراد الطوائف. والسؤال: ما هي طبيعة الدولة التي تشكلها الأديان؟ أليست الدولة الدينية، وحينها سنعود بالضرورة إلى الغلبة الطائفية، وهي هي من كانت في كل التاريخ العربي الإسلامي، وكل تاريخ ودولة تستقي وجودها وشريعتها من الدين، ستكون فيها الغلبة لدينٍ ما بالتأكيد، وهو حال دولنا العربية راهناً، وفي لبنان ليس من دولةٍ حقيقية بل هناك دولاً طائفية في الدول الطائفية!
ادّعى المؤتمر أن قضيته الرئيسة، هي معالجة القلق "المرضي" للمسيحيين، وأشكال العنف السلطوي والجهادي، وكذلك خطأ انحياز كتلة وازنة منهم إلى جانب الأنظمة. وضمن ذلك يَردُّ المؤتمر على حلف الأقليات وحاميها، أي حزب الله والتيار الوطني الحر والنظام السوري، ورسالته هذه يوجهها إلى عامة المسيحيين والمسلمين: هناك مسيحيون آخرون، وهم مع الثورات وضد الأنظمة، وهذا يجب أن يكون المكان الطبيعي للمسيحيين، وليس الانحياز مع النظام أو أية أنظمة مستبدّة. والسؤال هذا ألا يخفي ما ذكرنا الواقع الفعلي، والذي يقول إن القلق هذا ينتاب كل الشعوب العربية؛ فما هو حال اليمن وليبيا والعراق وسورية؟ وإذا اعتبرنا، كما هم، أن ذلك التحالف ضد الأكثرية السنية المظلومة، فما حالها في مصر مثلاً؟ ومن يتصارع في ليبيا، وفي لبنان هل تعاني كما حالة التغيير الديمغرافي والتهجير الملاييني لكثيرين منها في سورية أو العراق؟ قصدت من هذه الأسئلة، أن هناك واقعاً كارثياً في كل الدول العربية، وتتنوع المعاناة والمظالم وتتعدّد مستوياتها، وهناك سياساتٌ طائفيةٌ ولا شك، ومعالجتها لا تتمُّ عبر الرؤية والسياسات المسيحية مجدّداً، وهذه بالتأكيد لا توقف قلقاً وجودياً. ما يُوقف قلق المسيحيين والمسلمين وكل مذاهبهم وطوائفهم هو البحث عن رؤية وبرامج مشتركة، تجمع شعوب هذه المنطقة، وتُحيّد أديانهم عن السياسة، وتدافع عن حرية المؤمنين فيها بممارسة الجانب المذهبي الخاص، وأن يكون هذا المشترك قوميّاً أو برنامجاً سياسيّاً عاماً، لا تختلط فيه أية تغلبات قومية أو دينية، وهذا تحقّقه فقط دولة علمانية ديموقراطية، وليس لجلجة عن دولة مدنية غير واضحة المعالم، وفي حال استُخدِمت كلمة مدنية، فيجب تقديمها ضمن أطر أنها هي الدولة العلمانية الديمقراطية.
الدولة أعلاه، وحينما تعتمد النظام الديمقراطي، وتتيح لكل طبقات المجتمع وأفراده تحديد خياراتهم وممارساتهم، وتنتفي فيها كل أشكال الظلم والقوانين التغلبية، حينها سيتحقق شيء من الاستقرار وينتفي فيها قلق المسيحيين، و"قلق" الشعوب العربية.
المؤتمر سياسي بامتياز، ومشكلته تكمن وعدا ما بينّت السطور أعلاه، في أن الداعين إليه،
والكلمات التي ألقيت فيه والانطباع عنه، أنّه يخصّ المسيحيين فقط، ويفتح مجالاً لبقية أهل الأديان والمذاهب، بل والقوميات، بعقد مؤتمراتها ولمعالجة المرض ذاته، ثم ألم يقلق العلويون كثيراً؟ ألم يقلق التركمان والكرد وسواهم، بل ألم يقلق أكثر من الجميع السنة؟ مدخل المؤتمر خاطئ كلية، لأنه يعالج السياسة من زاوية الدين، وحينما يعالج الأمر كذلك، فنتيجته لصالح النظام بالضرورة، فهو الآن من يؤمن لهم الاستقرار، وبظله ومنذ أربعين عاماً لم تحصل لهم مجزرة! إن معالجة المسألة الطائفية يقوم بها حالياً شباب العراق ولبنان والجزائر، وثورتهم تنطلق من الهوية الوطنية، ويرفضون بشكل نهائي كل وصاية طائفية أو حماية أجنبية، ويرسلون عبرها رسائل "علمانية" إلى كل الطوائف والقوميات والتعدّد الثقافي، إن تحقيق أهداف الثورة هو ما ينهي ذلك القلق.
التصالح مع التاريخ ومع الثورات يكون بتبنّي أهداف الثورات في الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة، والتخلص من أوهام تسييس الدين بشكل إيجابي أو سلبي. وهذا غير ممكن بدون التأسيس للدولة الحديثة، والتي هي دولة علمانية وديمقراطية، والدين فيها منزّه عن السياسة والدولة، وبدون أية لجلجلة، وهو فقط ما يساوي بين أفراد الشعب، ومهما كانت غلبتهم الدينية، ويؤسس لغلبة سياسية ديمقراطية، تعمل من أجل جميع أفراد الشعب.
عدا النقاش أعلاه لقضايا المؤتمر، يمكن معالجة الإشكالات الطائفية في سورية، وستجدها إشكالات متعدّدة، وتتعلق بكل الطوائف، في سورية والعراق ومصر ولبنان وسواها؛ وحينها نتحرّك في فضاء عربي، وننتج عروبة جديدة، وثقافية بالفعل. الدين ليس هو المدخل بالتأكيد، بل القومية. وفي هذا ليس صحيحاً أن المسلمين والمسيحيين اجتمعوا ضد الدولة العثمانية، بل ما جمعهم هي الرؤية القومية العربية، وفي ظلِّها تحرّك العرب لمواجهة العثمانيين، ولاحقاً الأوروبيين، وليسوا باعتبارهم ممثلي أديان وطوائف. ولهذا كله كان يجب الدعوة لمؤتمر قومي عربي جديد، يعالج قضايا العرب وغير العرب ممن يوجدون في عالمهم، ومن يسعى إلى تحقيق دولته المستقلة عنهم كذلك.
ليس من رؤية دينية إيجابية محمودة ورؤية دينية سلبية مذمومة؛ فكل تلك الرؤى في حقل السياسة تؤسس لأشكالٍ من الدولة الدينية، وحينها ستتأسّس غلبة دينية وستظهر مشكلاتٌ ثقافية دينية "دين رئيس الدولة، قوانين الأحوال الشخصية الطائفية، دور الشريعة في الدستور وغيرها".. لنلاحظ الخلاف العلماني الإسلامي في تونس مثلاً.
يتضمّن بيان المؤتمر، وكذا كلمات المشاركين فيه، تحريفاً في التاريخ، ودفاعاً عن دولة مدنيةٍ
ادّعى المؤتمر أن قضيته الرئيسة، هي معالجة القلق "المرضي" للمسيحيين، وأشكال العنف السلطوي والجهادي، وكذلك خطأ انحياز كتلة وازنة منهم إلى جانب الأنظمة. وضمن ذلك يَردُّ المؤتمر على حلف الأقليات وحاميها، أي حزب الله والتيار الوطني الحر والنظام السوري، ورسالته هذه يوجهها إلى عامة المسيحيين والمسلمين: هناك مسيحيون آخرون، وهم مع الثورات وضد الأنظمة، وهذا يجب أن يكون المكان الطبيعي للمسيحيين، وليس الانحياز مع النظام أو أية أنظمة مستبدّة. والسؤال هذا ألا يخفي ما ذكرنا الواقع الفعلي، والذي يقول إن القلق هذا ينتاب كل الشعوب العربية؛ فما هو حال اليمن وليبيا والعراق وسورية؟ وإذا اعتبرنا، كما هم، أن ذلك التحالف ضد الأكثرية السنية المظلومة، فما حالها في مصر مثلاً؟ ومن يتصارع في ليبيا، وفي لبنان هل تعاني كما حالة التغيير الديمغرافي والتهجير الملاييني لكثيرين منها في سورية أو العراق؟ قصدت من هذه الأسئلة، أن هناك واقعاً كارثياً في كل الدول العربية، وتتنوع المعاناة والمظالم وتتعدّد مستوياتها، وهناك سياساتٌ طائفيةٌ ولا شك، ومعالجتها لا تتمُّ عبر الرؤية والسياسات المسيحية مجدّداً، وهذه بالتأكيد لا توقف قلقاً وجودياً. ما يُوقف قلق المسيحيين والمسلمين وكل مذاهبهم وطوائفهم هو البحث عن رؤية وبرامج مشتركة، تجمع شعوب هذه المنطقة، وتُحيّد أديانهم عن السياسة، وتدافع عن حرية المؤمنين فيها بممارسة الجانب المذهبي الخاص، وأن يكون هذا المشترك قوميّاً أو برنامجاً سياسيّاً عاماً، لا تختلط فيه أية تغلبات قومية أو دينية، وهذا تحقّقه فقط دولة علمانية ديموقراطية، وليس لجلجة عن دولة مدنية غير واضحة المعالم، وفي حال استُخدِمت كلمة مدنية، فيجب تقديمها ضمن أطر أنها هي الدولة العلمانية الديمقراطية.
الدولة أعلاه، وحينما تعتمد النظام الديمقراطي، وتتيح لكل طبقات المجتمع وأفراده تحديد خياراتهم وممارساتهم، وتنتفي فيها كل أشكال الظلم والقوانين التغلبية، حينها سيتحقق شيء من الاستقرار وينتفي فيها قلق المسيحيين، و"قلق" الشعوب العربية.
المؤتمر سياسي بامتياز، ومشكلته تكمن وعدا ما بينّت السطور أعلاه، في أن الداعين إليه،
التصالح مع التاريخ ومع الثورات يكون بتبنّي أهداف الثورات في الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة، والتخلص من أوهام تسييس الدين بشكل إيجابي أو سلبي. وهذا غير ممكن بدون التأسيس للدولة الحديثة، والتي هي دولة علمانية وديمقراطية، والدين فيها منزّه عن السياسة والدولة، وبدون أية لجلجلة، وهو فقط ما يساوي بين أفراد الشعب، ومهما كانت غلبتهم الدينية، ويؤسس لغلبة سياسية ديمقراطية، تعمل من أجل جميع أفراد الشعب.
عدا النقاش أعلاه لقضايا المؤتمر، يمكن معالجة الإشكالات الطائفية في سورية، وستجدها إشكالات متعدّدة، وتتعلق بكل الطوائف، في سورية والعراق ومصر ولبنان وسواها؛ وحينها نتحرّك في فضاء عربي، وننتج عروبة جديدة، وثقافية بالفعل. الدين ليس هو المدخل بالتأكيد، بل القومية. وفي هذا ليس صحيحاً أن المسلمين والمسيحيين اجتمعوا ضد الدولة العثمانية، بل ما جمعهم هي الرؤية القومية العربية، وفي ظلِّها تحرّك العرب لمواجهة العثمانيين، ولاحقاً الأوروبيين، وليسوا باعتبارهم ممثلي أديان وطوائف. ولهذا كله كان يجب الدعوة لمؤتمر قومي عربي جديد، يعالج قضايا العرب وغير العرب ممن يوجدون في عالمهم، ومن يسعى إلى تحقيق دولته المستقلة عنهم كذلك.
ليس من رؤية دينية إيجابية محمودة ورؤية دينية سلبية مذمومة؛ فكل تلك الرؤى في حقل السياسة تؤسس لأشكالٍ من الدولة الدينية، وحينها ستتأسّس غلبة دينية وستظهر مشكلاتٌ ثقافية دينية "دين رئيس الدولة، قوانين الأحوال الشخصية الطائفية، دور الشريعة في الدستور وغيرها".. لنلاحظ الخلاف العلماني الإسلامي في تونس مثلاً.