13 سبتمبر 2015
من الخطاب الديني إلى الخطاب الغيبي
ظلت النخب العربية، بكل تشكيلاتها، في الأوساط الإعلامية والثقافية وحتى الأكاديمية، منشغلة بنقاشات العلمانية وتطبيق الشريعة ضمن سجال سياسي، في مرحلة ما قبل الربيع العربي، وزادت حدة النقاشات، وطغت على مجمل السجال السياسي والحقوقي والاجتماعي، بعد الربيع العربي وإثره. وبدا وكأن هنالك تيارات علمانية حقيقية في الحالة العربية، ناهيك عن ادعائها تمثيل قطاعات واسعة من المجتمعات العربية. وفي المقابل، أذكى الإسلاميون هذا النقاش، كأنه الأهم على أجندة الشعوب المقهورة بسطوة الاستبداد، واعتمدت جماعات إسلامية كثيرة على تصديره ورقة رابحة، فالشعوب "المتدينة بطبعها" لن تقبل نظاماً "علمانيا"، كأن حاملي هذا النظام، والداعين إليه، قوة سياسية وازنة، أو كأنهم خارج منطق النفعية السياسية الذي يستخدم الدين أكثر مما يمتثل له.
من هنا، بدأت النقمة الواسعة والجدل الصاخب على "استخدام الخطاب الديني في السجال السياسي" كأحد أوجه نقاش تطبيق الشريعة، والدولة المدنية، وعلمانية الدولة ومؤسساتها. حتى بدا فعلاً وكأن هنالك خلافا على هذه القضية، وأن هنالك رؤى واعية حيال الخطاب الديني المجيّر لمصالح سياسية. ثم وصل الجدل إلى مداه في الحالة المصرية، وبلغ التغني بانقلاب الجيش على الإخوان حد اعتباره تقويضا لتغول الديني على السياسي عربياً. والملاحظ أن حجم التشنيع الإعلامي على أي دلالة دينية يحويها خطاب زعيم سياسي بلغ حداً غير مسبوق، قبيل الانقلاب في مصر، حتى يخال المتابع أن "المجموعة أو الجماعة" الحاكمة وحدها من لا تزال متمسكة بهذا التقليد المجلوب من القرون الوسطى، أما المجتمع ونخبه فقد تجاوزوا العلمانية بأصرم صورها.
الطريف اليوم ملاحظة نوعية خطاب النخبة الحاكمة في مصر، ومقارنته بخطاب الإخوان، وتحديداً في الشق "الديني" منه. وما يمكن أن يكون مفارقة مهمة أن السيسي ينتقل من الخطاب الديني، ذي المرجعيات المحددة والواضحة والقابلة للنقاش والأخذ والرد والسجال، إلى مستوى "الخطاب الغيبي"، غير المستند إلى أي مرجعية دينية، أو حتى نصوص أو مذاهب أو تركة فقهية. السيسي اليوم يستخدم خطاب التدين الشعبي، بل أسوأ خطاباته ومفرداته، فيمتلك هو وعيا باطنيا بما يريد الله وماذا اختار، شيء يجعل حديث الرب مع جورج بوش في ردهات البيت الأبيض أمرا عاديا.
إن الصمت إزاء عبارات من قبيل إن مصر قُدّر لها أن يحدث كذا وكذا، من دون حتى توضيح من قدر وماذا قدر، و"أنا مخلوق كده علشان أعمل كده"، يعني العودة إلى ما قبل مرحلة القرون الوسطى، حتى المرجعية الواضحة هنا غائبة، ويمكن التقاط أنها تتشكل من أساطير شعبية عن الحسد والعين والشر، وحسن الطالع والتوفيق المقدر منذ الأزل. هذا كله لا يثير حفيظة أحد، لأن نقاش استخدام الخطاب الديني في السياسة، في شقه الإعلامي الصاخب، غير حقيقي، بل نغمة مواتية ضمن جوقة دعاية سياسية، تهاجم جهات لتحصيل مكاسب لصالح جهات أخرى. وهذا نموذج عن الكيفية التي تعمل فيها النخب الإعلامية والثقافية العربية على تضليل العامة، عبر فرض أولويات زائفة وإثارة الصخب بشأنها.
القاسم المشترك الأساسي بين مرحلتي السيسي وما قبله، هو البحث عن مبرر آخر غير المصلحة العامة لتبرير السياسات ومساءلتها، ثم الاتكاء على قدرية ما لتبرير الفشل، حتى تنعدم قيمة أي مساءلة أو مراجعة لمسارات بائسة. والحقيقة أن هذا النهج قديم، ويُستدعى دوما في أزمنة الهزائم، حيث هنالك شيء ما غير مدرك ولا مستوعب منا كبشر كان السبب في هزيمة ما، أو في اختيار سياسةٍ ما. إن استخدام خطاب التدين الشعبي في السياسة أفدح من أي استخدام للدين في السياسة، فهذا ليس خطاباً دينيا وحسب، بل هو شعبوي وغير خاضع لأي منطق عقلاني سجالي.