من الماضي إلى المستقبل
تجتاحني، هذه الأيام، رغبة شديدة في نبش الماضي، والبحث في دفاتري العتيقة، في محاولة لاسترجاع ذاكرة ممتدة حافلة بالتجارب، أصابت وأخطأت، كأي فعل إنساني. غامرت وركبت الصعاب، لكنها، دوماً، كانت قريبة من الواقع الذي تعيشه، تفهمه وتتفهمه، في محاولة جادة للتمرد عليه وتغييره. على أن هذا على ما يبدو سمة تجتاح غيري، كما تجتاحني. قد يكون هروباً من الواقع، عبر استرجاع عبر الماضي، للبحث عن المستقبل.
من ضمن هذه الأوراق، وجدت بحثاً عن تطور فكر سيد قطب، وعلى الرغم من أن هذا البحث كتب في مرحلة دراستي العليا قبل أكثر من ربع قرن، إلا أنه أثار انتباهي، لارتباطه الحي بالواقع الذي نعيش، في ظل التطورات الداعشية المهيمنة على منطقتنا، حيث تشكل بعض التفسيرات للفكر القطبيّ حول المجتمع الجاهلي ركيزة أساسيةً لتطور أفكار السلفية الجهادية، وتكفير المجتمعات، ودار الحرب والسلم، وأحكامها.
ما لفت نظري هو كيف وصل سيد قطب إلى هذه النتيجة، وهو، في بداية حياته، كان على النقيض منها. والملاحظ أن كتاباته داخل السجن هي التي حملت هذا المنحى التكفيري، عكس كتاباته وهو حر طليق. سيد قطب الذي دعا إلى جبهة وطنية عريضة، تضم الحزب الشيوعي، لمواجهة الاستعمار البريطاني، هو ذاته الذي اعتبر أن المجتمع الإسلامي يمكن أن يقوم على ثلاثة أفراد، وما عدا ذلك فهو مجتمع جاهلي.
ولعل هذا مدعاة للبحث في كيفية نشوء الأفكار وتطورها. الأفكار ليست تجريداً، يحلق في الهواء، بقدر ما هي على تماس مباشر، بل وعلى تصادم، مع الواقع في علاقة جدلية حية. الفكر يمتزج بالسياسة اليومية، ويختلط بالمنافسة والعداوة، وبألوان التيارات الأخرى.
الفكر لا ينفصل عن الواقع، لكنه لا يكتفي برسمه وتسجيله، بقدر ما ينطلق منه، ليحلق به، ويرسم له إطاراً أوسع وأشمل، من أجل نقده وتجديده، وربما محاولة تغييره والانقلاب عليه. وهذا الجدل الحي بينهما هو الذي يرسم آفاق الحياة الإنسانية وتطورها، ويحدد ملامح مستقبلها، في حركة دائمة إلى الأمام أو إلى الخلف، لكنها لا تحتمل السكون والمراوحة في المكان.
وفي هذا الإطار، لا ينبغي التوقع من أحد أن يشيد بديمقراطية نظامٍ، وهو قابع في معتقلاته. أو من تنظيم سري أن يخرج للعلن في ظل الحراب والعصي. وبالقدر نفسه الذي يتحمل فيه المفكر، أو التنظيم، يمينياً كان أو يسارياً، تقدمياً أو محافظاً، مسؤوليته عن أفكاره وعمله. تتحمل السلطات مسؤوليتها عن دفعه إلى هذه الزاوية أو تلك. وتتحمل القوى الأخرى في المجتمع مسؤوليتها عن صمتها، شيطانها الأخرس، يستوي في ذلك الجميع من مختلف التيارات. ما مر به سيد قطب من تطور في المضمون وتغيير في الملامح، مررنا به جميعاً. كلٌّ مر في حياته بمراحل فكرية مختلفة. قبل أيام، أيقظ الصديق إلياس خوري هذا الجرح لدي. وربما لدى عدد وافر من أبناء جيلنا، في مقاله "عن داعش وأخواتها". عندما تحدث عن عجز الثقافة السياسية اليسارية والعلمانية أن ترى مأزقها، وفشل الأسلمة اليسارية بعد الثورة الإيرانية في حل معضلة عزلة اليسار، على الرغم من نماذجها النضالية، وكوكبة من شهدائها. وبلادنا التي تتهاوى، الآن، بين قبضتي الاستبداد وداعش، وسط عجز قوى التغيير، بمختلف تياراتها، عن بلورة مشروع جديد.
نعم يا صديقي إلياس، جيلنا مر بذلك كله، من المشروع الوطني الذي جرت محاولات لإكسابه الصفة القومية، وجعله مشروعاً لثورة عربية كبرى، إلى محاولة الاستعانة بأدوات التحليل الماركسي، وبتلاوينه الماوية أحياناً، إلى اكتشاف ذلك الزخم الإسلامي المتجذر في وعي الجماهير العربية. إلى الثورات والحصار والاجتياح والثورات المضادة. والأهم سرقه الثورة من ثوارها، وطرد الثوار من الثورة، عبر التخلي عن أفكارها في الحرية والتحرير، ومواجهة العدو الصهيوني، والتخلص من الاستبداد. حدث هذا كلما توافر مشروع ثورة أو تغيير، في مصر، كما في سورية والعراق ولبنان وفلسطين، وتم اغتيال عقولنا بمفاهيم لم ندركها، يوماً، عن المذهبية والطائفية والإقليمية والمغالبة، ناهيك عن المحاولات المستمرة لإخماد فكرة المقاومة في صفوفنا. أي بيئة خصبةٍ أفضل من هذه لداعش، وأخواتها الكثر، بيننا.
أما الأخطر في علاقة هذا الفكر بالواقع فهو في فلسطين، حيث يتم اغتيال الأمة بأسرها. وكما أن جزءاً كبيراً مما يحدث بدأ بسبب فلسطين، ومن أجل تغييبها، وتكريس المشروع الصهيوني فيها، فإن الحل، أيضاً، يبدأ من فلسطين، من البوصلة التي كانت، وستبقى، معياراً للتوجه الصائب، لا تخطئ إشارتها. وفلسطين، هنا، ليست أرضاً وجنسية وأبناء، بل هي قضية كل الشرفاء والمناضلين في منطقتنا، على اختلاف تلاوينهم الفكرية. فهل تنجح فلسطين في بلورة مشروع مناهض ومقاوم للعدو الصهيوني وللتخلف والمذهبية والطائفية. هل يكون هناك مشروع نضالي لجماهير الأمة يشكل بديلاً حقيقياً، ينطلق من روح الأمة وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، عوضاً عن التغيير الداعشي الوحيد، المفروض الآن على أمتنا. هل تعود فلسطين بأبعادها المختلفة طريقاً للوحدة؟
من دون ذلك، علينا أن نواجه كارثة كبرى.