30 ديسمبر 2021
من غرائب الإعلانات ولطائفها
"الرجاء رد الإعلان لحامله". وردت هذه العبارة المتفردة في دنيا الإعلانات في ذيل أوراق رديئة الطباعة، تعود سكان القاهرة والإسكندرية في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي على رؤية صبية يوزعونها في المقاهي والجوامع ووسائل المواصلات، ثم يقفون على رأس من يعطونه الإعلان في انتظار أن يفرغ من قراءة السطور الغريبة الواردة فيه والتي تقول للزبائن المفترضين ما يلي:
"مملكة الحب والجمال
في الحب
يا رب خلقت الجمال فتنة وقلت يا عبادي اتقون وأنت جميل وفي الجمال فكيف عبادك لا يتقون. صدر مملكة الحب تجلل الحب كما تجلل الشمس بمرواحها والسماء ببهائها والقمر بطلعته. رواية أدبية غرامية مصرية عصرية مصورة تأليف الأستاذ... الثمن 10 مليم فقط".
هذه السطور الركيكة والمليئة بالأخطاء، والتي تعلن عن رواية غرامية، اختارتها مجلة (الدنيا المصورة) الصادرة في عددها الصادر بتاريخ 10 أغسطس 1932، كنموذج لأغرب وأطرف الإعلانات في مصر، لأن ناشرها يشترط على من يقرأ الإعلان رد الإعلان لموزعه، توفيراً للنفقات الإعلانية، وهو ما يعلق عليه محرر المجلة قائلاً "والويل لك من موزع الإعلان لو أنك لم تقرأ التنبيه الأخير وتجاسرت على رمي الإعلان في الوحل أو مزقته".
في بداية تقريره الطريف، يشير محرر المجلة إلى التطور الذي حدث في مجال الإعلانات في مصر في العقد الثاني من القرن العشرين، بعد أن "فطن الكثيرون من أصحاب المشروعات المهمة في مصر إلى قوة الإعلان وتأثيره في الرواج والانتشار، فعمدوا إلى الإكثار من الإعلانات وإن كان نطاق هذا الفن لا يزال ضيقاً والتفنن والابتكار فيه ما زالا محدودين"، وفي رسالة واضحة إلى أصحاب المشروعات التجارية من مجلة رائجة كانت تعتمد بشدة على الإعلانات، يشير المحرر إلى تفنن الأوروبيين والأمريكيين في وسائل الإعلان وإنفاقهم أموالاً طائلة في هذا السبيل مقارنة بما يفعله أصحاب المشاريع في مصر قائلاً: "فقد يوقف صاحب المشروع التجاري أو الصناعي أو المالي نصف رأسماله أو شطراً كبيراً منه لينفقه في الدعاية والإعلان عن ذلك المشروع، وإن الأرباح الطائلة التي تعود على المعلنين من جراء إعلاناتهم الجذابة لتعوض عليهم أضعاف ما ينفقونه في هذا السبيل".
ولكي لا تقع مجلة (الدنيا المصورة) الصادرة عن دار الهلال في حرج انتقاد المجلات المنافسة لها، اختار محررها بعد هذه المقدمة، أن يشير إلى طرائف وغرائب الإعلانات التي يتم توزيعها في الشوارع والأسواق، ومن بينها إعلان لخطاط اسمه أمين التركي، وضع صورته الفوتوغرافية في صدر الإعلان الذي تم تصميمه بشكل قبيح يتنافى مع كون الخط فنا جميلا، كاتباً على أحد جانبي الصورة اسمه، وعلى الجانب الثاني عبارة "خطاط مع اتقان الفن والحفر على النحاس"، ثم كتب "كن كما تكن ولا تكن كأنك لم تكن".
لم يكتف الخطاط بهذه العبارات للدعاية لنفسه، بل قرر أن يضع في الإعلان خطبة عصماء قال فيها لقارئ الإعلان: "متع نظرك بجمال الفن واجعل خطي وحسن فني في فؤادك، فذلك يدل على قوة شعورك وإحساسك وحسن ذوقك ورقة عواطفك وكمال أخلاقك، لأني أكتب وأخدم كل من كان من الأكابر، فإن كنت منهم فشرفني رغم كل حسود مكابر، فكل ما تراه عيناك في السودان ومصر والشام من صنع يدي وخطي لا أحتاج إلى مساعد. تأكد من عنواني فإن أخطأت المحل فاللوم عليك من غير شاهد، والسلام على من تفكر وتذكر والسلام على من اتبع الهدى"، ثم كتب اسمه وأتبعه بتوصيف إضافي، ربما لأنه استخسر المساحة الفاضية في الورقة "خطاط ورسام ومقاول أشغال البويات مصالح الحكومة لكتابة أنواع اليفط بجميع اللغات".
المشكلة أن الخطاط "الرغّاي" نسي أن يذكر محله وعنوانه في الإعلان، وهو ما يفسره محرر المجلة بأن الخطاط كان يوزع إعلاناته باليد في القرى والكفور والنجوع التي كان يزورها، لأنه كتب في ذيل الإعلان "بمصر والآن ضيف هذه البلدة لمدة خمسة أيام"، لكنه لم يذكر موعدا لبدء هذه الأيام الخمسة أو نهايتها، معتمداً على أن "اللي يسأل ما يتوهش واللقا نصيب".
نموذج إعلاني آخر تحدثت عنه المجلة، صاحبه "عالم روحاني" وصفته المجلة بالدعيّ قائلة "وما أكثر أمثال هذا الدعي في مصر وما أشد خطرهم على عقول العامة والسذج"، ومع ذلك يحسب للرجل أنه كان أميناً مع جمهوره، حيث وضع كلمة (إعلان) في صدر الأوراق التي يوزعها الصبيان في الطرقات، وقام بتعريف نفسه لجمهوره بأنه "الذي مكس ـ بالسين لا بالثاء ـ مدة 15 سنة بالأقطار الشامية ويقول لك على مستقبل حياتك ببركة أسماء الله الحسنى ـ علم الكف ـ طوالع رملية ـ علم فلك وتوفيقات ومنع قرينة الصبيان والنساء ويعلم الجمهور بأنه له علم بفن التدليك بالأمراض العصبية وتجبير المكسر على الطريقة العربية"، وبعد أن نشر عنوان مسكنه، أضاف أنه "مستعد للمقابلة من الساعة 8 صباحاً إلى الساعة 1 للسيدات ومن الساعة 3 إلى الساعة 8 مساء للرجال، وعلى الله الاتكال"، ولكي يكون واضحاً مع أي زبون له في اللوع والمناهدة، ختم إعلانه قائلاً: "ملحوظة: يجب على كل من يحضر عندنا يكون كامل باعتقاد الله عزوجل والله الموفق لما يريد".
أشار المحرر إلى نموذج إعلاني آخر تلقته المجلة في رسالة أرسلها من المحلة الكبرى، شخص اسمه علي عبد الغفار أطلق على نفسه لقب (البطل المصري) وعرف نفسه بأنه "الصعيدي المصارع المحترف الداهية في ألعاب القوى"، ثم وضع ترجمة فرنسية لنفس العبارات وردت فيها بعض الأخطاء في الترجمة، ووضع صورته على الظرف الذي أرسل فيه رسالته الإعلانية لكي تنشر في قسم الرياضة بالمجلة، ويصف المحرر رسالة البطل بأنها "رسالة طويلة نقر ونعترف بأننا لم نفهم مرماها ولا مغزاها ولا ما يريده من توجيهها إلينا"، ولكي تنجو المجلة من المسائلة القانونية لم تنشر اسم البطل الصعيدي في متن الموضوع ولكنها نشرت صورة للظرف الذي أرسل فيه رسالته، تظهر فيها صورته وشطبت على اسمه بشكل لا يمنع قراءة الاسم، وهو ما جعلني أتعاطف معه.
لكن المجلة لم تكرر تحايلها على نشر الأسماء، حين سخر محررها من بعض إعلانات السينما والمسارح والصالات التي "تتجلى فيها البلاغة في التهويل"، مختارة نموذجاً لإعلان لم يتم تحديد مصدر نشره، يقول عن إحدى المطربات ما يلي: "على من يعشق الطرب للفن ذاته أن يقصد الجنة التي أعدتها المطربة القديرة فيسمع الشجو العاطفي تؤديه نبرات الصوت الجهير خير أداء فمن أنين خارج من حبات القلب إلى شجو ذي حنين.. وهكذا ترى المطربة القديرة تنتقل بالسامع من عاطفة إلى أخرى، فمن نشوة الطرب إلى ألم الشكوى إلى حرقة البعاد إلى ألم الحرمان حتى ينسى نفسه فيصفق ويطرب غير متمالك شعوره"، فلم تذكر المجلة اسم المطربة التي يصفها الإعلان بـ "القديرة" ويضع صورتها مصحوبة من جانب بعبارة "تطربكم بصوتها الشجي الساحر إلى ما بعد منتصف الليل"، ومن الجانب الآخر بعبارة "عروس الرشاقة وعنوان الملاحة"، وربما كان سبب عدم ذكر اسم المطربة أن المجلة كانت طمعانة في أن ترتقي المطربة بفنها وتنشر إعلاناتها في المجلة، ليحقق التقرير المنشور هدف إمتاع القراء و"جرّ رِجل" المعلنين في نفس الوقت.
...
الرافعي ينصحكم بالفسفورين!
بمناسبة الإعلانات الطريفة والغريبة، اخترت لك هذا الإعلان الذي نشرته مجلة (الدنيا المصورة) في نهاية سنة 1929 للدعاية لمركب طبي انجليزي اسمه (الفسفورين)، استوردته ووزعته الشركة المصرية البريطانية التجارية، التي قررت أن تستهدف الشريحة المثقفة من الجمهور، فاختارت الكاتب مصطفى صادق الرافعي الذي وصفته بأنه "نابغة الأدب وحجة العرب" لكي يكون نجم حملتها الإعلانية، ولكي تضمن اهتمام من لم يقرأ له من قبل بمنتجها الطبي، قامت بتعريف الرافعي بأنه "الاستاذ الشهير السيد مصطفى صادق الرافعي الذي قال سعد باشا زغلول في وصف بيانه: كأنه تنزيل من التنزيل"، ولا أدري هل تم الاتفاق مع الرافعي على هذا التعريف المصحوب بصورته أم لا؟ خصوصاً أن الجملة المنسوبة لسعد زغلول كان قد قالها بحق كتاب الرافعي (إعجاز القرآن)، وانتقدها البعض ورأى فيها مبالغة لا تليق.
كانت شهرة الرافعي وقتها ككاتب نثر أكبر بكثير من شهرته كشاعر، لكن إعلان الشركة اختار وصفه بالشاعر الكبير، قبل أن ينتقل إلى صلب الموضوع، قائلاً إن الرافعي استعمل الفوسفورين "فوجد أنه لا يوجد مثله في تقوية الأعصاب وحضرته ينصح من يشكو الضعف أن يستعمل الفوسفورين"، ولكي يقطع الإعلان أي شك في الموضوع، طلب من القارئ أن يقرأ شهادة الرافعي بخط يده والممضاة بإمضائه، والتي نشر الإعلان صورة زنكوغرافية لها جاء فيها ما يلي:
"تعاطيت الفسفورين فما أدري أشربته أم شربت فيه كهرباء، إنه قوة تُباع وتُشرى، ولا يكاد المرء يفرغ من زجاجةٍ منه حتى يعلم بشهادة جسمه أن المعنى الحديدي الذي حلّ في أعصابه إنما كان في هذه الزجاجة. ليس كالفسفور في تقوية العصب وليس كالتجربة في البرهان، فنصيحتي لمن يشكو الضعف أن يشكوه إلى الفسفورين. القاهرة في مايو سنة 1929. مصطفى صادق الرافعي".
هل أخذ الرافعي مقابلاً مادياً ضخماً بمعايير ذلك الزمان لكي يكتب هذه الشهادة بخط يده؟ أم حصل على كمية ما من زجاجات الفوسفورين، التي كان يحتاجها للتغلب على متاعبه الصحية، خصوصاً أنه عانى لفترة من ضعف السمع بسبب مضاعفات طبية، وهل وجد أن الفوسفورين كان فعالاً في إشعال طاقته في المعارك الأدبية التي دخلها مع العديد من كتاب عصره وعلى رأسهم غريمه عباس محمود العقاد الذي قرر الرافعي أن يرد على هجومه الدائم عليه، فهجاه في كتاب كامل بعنوان (على السفود) وصل فيه إلى حد وصفه بالكاتب المراحيضي وأحمق الدولة وغيرها من الأوصاف التي تفوح منها روائح الفوسفورين، الذي يلزم لتقوية العصب، للدخول في معركة حامية الوطيس مع هجّاء عظيم مثل العقاد.
لم أجد إجابة على كل هذه الأسئلة، لكن المؤكد أن المنتج نفسه اختفى، وبقي الإعلان.
...
وختاماً مع الكاريكاتير:
في بعض أعدادها الصادرة في عام 1933 نشرت مجلة (الفكاهة) الصادرة عن دار الهلال، هذه الرسوم الكاريكاتورية عن رجال الشرطة، ومع أنها رسوم شديدة البساطة إلا أنك لن تجد مثيلاً لها هذه الأيام في الصحف والمجلات المصرية التي أصبحت تدار بإشراف مباشر من ضباط الأجهزة السيادية:
لن تجد مثل هذه الرسوم في صحف ومجلات عهد السيسي، لأن هذه الصحف والمجلات تحولت إلى نسخ من صحيفة (بهجتيانية) التي تخيلها الفنان الكبير بهجت عثمان في كتابه الساخر (الديمقراطية للمبتدئين)، لكنها نسخة أكثر فجاجة وأثقل ظلاً:
"مملكة الحب والجمال
في الحب
يا رب خلقت الجمال فتنة وقلت يا عبادي اتقون وأنت جميل وفي الجمال فكيف عبادك لا يتقون. صدر مملكة الحب تجلل الحب كما تجلل الشمس بمرواحها والسماء ببهائها والقمر بطلعته. رواية أدبية غرامية مصرية عصرية مصورة تأليف الأستاذ... الثمن 10 مليم فقط".
هذه السطور الركيكة والمليئة بالأخطاء، والتي تعلن عن رواية غرامية، اختارتها مجلة (الدنيا المصورة) الصادرة في عددها الصادر بتاريخ 10 أغسطس 1932، كنموذج لأغرب وأطرف الإعلانات في مصر، لأن ناشرها يشترط على من يقرأ الإعلان رد الإعلان لموزعه، توفيراً للنفقات الإعلانية، وهو ما يعلق عليه محرر المجلة قائلاً "والويل لك من موزع الإعلان لو أنك لم تقرأ التنبيه الأخير وتجاسرت على رمي الإعلان في الوحل أو مزقته".
في بداية تقريره الطريف، يشير محرر المجلة إلى التطور الذي حدث في مجال الإعلانات في مصر في العقد الثاني من القرن العشرين، بعد أن "فطن الكثيرون من أصحاب المشروعات المهمة في مصر إلى قوة الإعلان وتأثيره في الرواج والانتشار، فعمدوا إلى الإكثار من الإعلانات وإن كان نطاق هذا الفن لا يزال ضيقاً والتفنن والابتكار فيه ما زالا محدودين"، وفي رسالة واضحة إلى أصحاب المشروعات التجارية من مجلة رائجة كانت تعتمد بشدة على الإعلانات، يشير المحرر إلى تفنن الأوروبيين والأمريكيين في وسائل الإعلان وإنفاقهم أموالاً طائلة في هذا السبيل مقارنة بما يفعله أصحاب المشاريع في مصر قائلاً: "فقد يوقف صاحب المشروع التجاري أو الصناعي أو المالي نصف رأسماله أو شطراً كبيراً منه لينفقه في الدعاية والإعلان عن ذلك المشروع، وإن الأرباح الطائلة التي تعود على المعلنين من جراء إعلاناتهم الجذابة لتعوض عليهم أضعاف ما ينفقونه في هذا السبيل".
ولكي لا تقع مجلة (الدنيا المصورة) الصادرة عن دار الهلال في حرج انتقاد المجلات المنافسة لها، اختار محررها بعد هذه المقدمة، أن يشير إلى طرائف وغرائب الإعلانات التي يتم توزيعها في الشوارع والأسواق، ومن بينها إعلان لخطاط اسمه أمين التركي، وضع صورته الفوتوغرافية في صدر الإعلان الذي تم تصميمه بشكل قبيح يتنافى مع كون الخط فنا جميلا، كاتباً على أحد جانبي الصورة اسمه، وعلى الجانب الثاني عبارة "خطاط مع اتقان الفن والحفر على النحاس"، ثم كتب "كن كما تكن ولا تكن كأنك لم تكن".
لم يكتف الخطاط بهذه العبارات للدعاية لنفسه، بل قرر أن يضع في الإعلان خطبة عصماء قال فيها لقارئ الإعلان: "متع نظرك بجمال الفن واجعل خطي وحسن فني في فؤادك، فذلك يدل على قوة شعورك وإحساسك وحسن ذوقك ورقة عواطفك وكمال أخلاقك، لأني أكتب وأخدم كل من كان من الأكابر، فإن كنت منهم فشرفني رغم كل حسود مكابر، فكل ما تراه عيناك في السودان ومصر والشام من صنع يدي وخطي لا أحتاج إلى مساعد. تأكد من عنواني فإن أخطأت المحل فاللوم عليك من غير شاهد، والسلام على من تفكر وتذكر والسلام على من اتبع الهدى"، ثم كتب اسمه وأتبعه بتوصيف إضافي، ربما لأنه استخسر المساحة الفاضية في الورقة "خطاط ورسام ومقاول أشغال البويات مصالح الحكومة لكتابة أنواع اليفط بجميع اللغات".
المشكلة أن الخطاط "الرغّاي" نسي أن يذكر محله وعنوانه في الإعلان، وهو ما يفسره محرر المجلة بأن الخطاط كان يوزع إعلاناته باليد في القرى والكفور والنجوع التي كان يزورها، لأنه كتب في ذيل الإعلان "بمصر والآن ضيف هذه البلدة لمدة خمسة أيام"، لكنه لم يذكر موعدا لبدء هذه الأيام الخمسة أو نهايتها، معتمداً على أن "اللي يسأل ما يتوهش واللقا نصيب".
نموذج إعلاني آخر تحدثت عنه المجلة، صاحبه "عالم روحاني" وصفته المجلة بالدعيّ قائلة "وما أكثر أمثال هذا الدعي في مصر وما أشد خطرهم على عقول العامة والسذج"، ومع ذلك يحسب للرجل أنه كان أميناً مع جمهوره، حيث وضع كلمة (إعلان) في صدر الأوراق التي يوزعها الصبيان في الطرقات، وقام بتعريف نفسه لجمهوره بأنه "الذي مكس ـ بالسين لا بالثاء ـ مدة 15 سنة بالأقطار الشامية ويقول لك على مستقبل حياتك ببركة أسماء الله الحسنى ـ علم الكف ـ طوالع رملية ـ علم فلك وتوفيقات ومنع قرينة الصبيان والنساء ويعلم الجمهور بأنه له علم بفن التدليك بالأمراض العصبية وتجبير المكسر على الطريقة العربية"، وبعد أن نشر عنوان مسكنه، أضاف أنه "مستعد للمقابلة من الساعة 8 صباحاً إلى الساعة 1 للسيدات ومن الساعة 3 إلى الساعة 8 مساء للرجال، وعلى الله الاتكال"، ولكي يكون واضحاً مع أي زبون له في اللوع والمناهدة، ختم إعلانه قائلاً: "ملحوظة: يجب على كل من يحضر عندنا يكون كامل باعتقاد الله عزوجل والله الموفق لما يريد".
أشار المحرر إلى نموذج إعلاني آخر تلقته المجلة في رسالة أرسلها من المحلة الكبرى، شخص اسمه علي عبد الغفار أطلق على نفسه لقب (البطل المصري) وعرف نفسه بأنه "الصعيدي المصارع المحترف الداهية في ألعاب القوى"، ثم وضع ترجمة فرنسية لنفس العبارات وردت فيها بعض الأخطاء في الترجمة، ووضع صورته على الظرف الذي أرسل فيه رسالته الإعلانية لكي تنشر في قسم الرياضة بالمجلة، ويصف المحرر رسالة البطل بأنها "رسالة طويلة نقر ونعترف بأننا لم نفهم مرماها ولا مغزاها ولا ما يريده من توجيهها إلينا"، ولكي تنجو المجلة من المسائلة القانونية لم تنشر اسم البطل الصعيدي في متن الموضوع ولكنها نشرت صورة للظرف الذي أرسل فيه رسالته، تظهر فيها صورته وشطبت على اسمه بشكل لا يمنع قراءة الاسم، وهو ما جعلني أتعاطف معه.
لكن المجلة لم تكرر تحايلها على نشر الأسماء، حين سخر محررها من بعض إعلانات السينما والمسارح والصالات التي "تتجلى فيها البلاغة في التهويل"، مختارة نموذجاً لإعلان لم يتم تحديد مصدر نشره، يقول عن إحدى المطربات ما يلي: "على من يعشق الطرب للفن ذاته أن يقصد الجنة التي أعدتها المطربة القديرة فيسمع الشجو العاطفي تؤديه نبرات الصوت الجهير خير أداء فمن أنين خارج من حبات القلب إلى شجو ذي حنين.. وهكذا ترى المطربة القديرة تنتقل بالسامع من عاطفة إلى أخرى، فمن نشوة الطرب إلى ألم الشكوى إلى حرقة البعاد إلى ألم الحرمان حتى ينسى نفسه فيصفق ويطرب غير متمالك شعوره"، فلم تذكر المجلة اسم المطربة التي يصفها الإعلان بـ "القديرة" ويضع صورتها مصحوبة من جانب بعبارة "تطربكم بصوتها الشجي الساحر إلى ما بعد منتصف الليل"، ومن الجانب الآخر بعبارة "عروس الرشاقة وعنوان الملاحة"، وربما كان سبب عدم ذكر اسم المطربة أن المجلة كانت طمعانة في أن ترتقي المطربة بفنها وتنشر إعلاناتها في المجلة، ليحقق التقرير المنشور هدف إمتاع القراء و"جرّ رِجل" المعلنين في نفس الوقت.
...
الرافعي ينصحكم بالفسفورين!
بمناسبة الإعلانات الطريفة والغريبة، اخترت لك هذا الإعلان الذي نشرته مجلة (الدنيا المصورة) في نهاية سنة 1929 للدعاية لمركب طبي انجليزي اسمه (الفسفورين)، استوردته ووزعته الشركة المصرية البريطانية التجارية، التي قررت أن تستهدف الشريحة المثقفة من الجمهور، فاختارت الكاتب مصطفى صادق الرافعي الذي وصفته بأنه "نابغة الأدب وحجة العرب" لكي يكون نجم حملتها الإعلانية، ولكي تضمن اهتمام من لم يقرأ له من قبل بمنتجها الطبي، قامت بتعريف الرافعي بأنه "الاستاذ الشهير السيد مصطفى صادق الرافعي الذي قال سعد باشا زغلول في وصف بيانه: كأنه تنزيل من التنزيل"، ولا أدري هل تم الاتفاق مع الرافعي على هذا التعريف المصحوب بصورته أم لا؟ خصوصاً أن الجملة المنسوبة لسعد زغلول كان قد قالها بحق كتاب الرافعي (إعجاز القرآن)، وانتقدها البعض ورأى فيها مبالغة لا تليق.
كانت شهرة الرافعي وقتها ككاتب نثر أكبر بكثير من شهرته كشاعر، لكن إعلان الشركة اختار وصفه بالشاعر الكبير، قبل أن ينتقل إلى صلب الموضوع، قائلاً إن الرافعي استعمل الفوسفورين "فوجد أنه لا يوجد مثله في تقوية الأعصاب وحضرته ينصح من يشكو الضعف أن يستعمل الفوسفورين"، ولكي يقطع الإعلان أي شك في الموضوع، طلب من القارئ أن يقرأ شهادة الرافعي بخط يده والممضاة بإمضائه، والتي نشر الإعلان صورة زنكوغرافية لها جاء فيها ما يلي:
"تعاطيت الفسفورين فما أدري أشربته أم شربت فيه كهرباء، إنه قوة تُباع وتُشرى، ولا يكاد المرء يفرغ من زجاجةٍ منه حتى يعلم بشهادة جسمه أن المعنى الحديدي الذي حلّ في أعصابه إنما كان في هذه الزجاجة. ليس كالفسفور في تقوية العصب وليس كالتجربة في البرهان، فنصيحتي لمن يشكو الضعف أن يشكوه إلى الفسفورين. القاهرة في مايو سنة 1929. مصطفى صادق الرافعي".
هل أخذ الرافعي مقابلاً مادياً ضخماً بمعايير ذلك الزمان لكي يكتب هذه الشهادة بخط يده؟ أم حصل على كمية ما من زجاجات الفوسفورين، التي كان يحتاجها للتغلب على متاعبه الصحية، خصوصاً أنه عانى لفترة من ضعف السمع بسبب مضاعفات طبية، وهل وجد أن الفوسفورين كان فعالاً في إشعال طاقته في المعارك الأدبية التي دخلها مع العديد من كتاب عصره وعلى رأسهم غريمه عباس محمود العقاد الذي قرر الرافعي أن يرد على هجومه الدائم عليه، فهجاه في كتاب كامل بعنوان (على السفود) وصل فيه إلى حد وصفه بالكاتب المراحيضي وأحمق الدولة وغيرها من الأوصاف التي تفوح منها روائح الفوسفورين، الذي يلزم لتقوية العصب، للدخول في معركة حامية الوطيس مع هجّاء عظيم مثل العقاد.
لم أجد إجابة على كل هذه الأسئلة، لكن المؤكد أن المنتج نفسه اختفى، وبقي الإعلان.
...
وختاماً مع الكاريكاتير:
في بعض أعدادها الصادرة في عام 1933 نشرت مجلة (الفكاهة) الصادرة عن دار الهلال، هذه الرسوم الكاريكاتورية عن رجال الشرطة، ومع أنها رسوم شديدة البساطة إلا أنك لن تجد مثيلاً لها هذه الأيام في الصحف والمجلات المصرية التي أصبحت تدار بإشراف مباشر من ضباط الأجهزة السيادية:
لن تجد مثل هذه الرسوم في صحف ومجلات عهد السيسي، لأن هذه الصحف والمجلات تحولت إلى نسخ من صحيفة (بهجتيانية) التي تخيلها الفنان الكبير بهجت عثمان في كتابه الساخر (الديمقراطية للمبتدئين)، لكنها نسخة أكثر فجاجة وأثقل ظلاً: