14 نوفمبر 2024
من مخاطر الحنين لما قبل يوليو 52
يلخص المستشرق الروسي فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد، في كتابه "تاريخ الحضارة الإسلامية"، واحدةً من سمات "مراحل الانحدار" في مختلف المجتمعات، وهي الحنين إلى الماضي وتمجيده. وفي قلب الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008، شاع خطاب عاطفي حماسي في قلب أعرق الديمقراطيات الرأسمالية الغربية يعيد الاعتبار لكارل ماركس، فضلاً عن مبيعات كبيرة مفاجئة من مؤلفاته. ومع تصاعد الاهتمام بوسائل الإعلام الاجتماعي، ودلالات ما يشيع فيها من خطاب يعتبره كثيرون "خطاباً سياسياً موازياً"، يحظى انطباع تغلب عليه الجزافية وغياب المعيارية، خلاصته أن الماضي يشكل "حلاً"، بجماهير كبيرة، وهذا تبسيط مخل وابتسار مضلل. وليس من شك في أن النكاية في الخصوم السياسيين قد أصبحت حجاباً على إدراك الواقع والمستقبل، بحسب "الخطاب السياسي الرسمي" و"الخطاب السياسي الموازي".
النظام الملكي المصري جزء من الماضي الميت، يستحيل التعامل الجدي مع ذكراه التي لا تخلو مما هو جميل، باعتباره بديلا سياسيا. ونشوة التذكر ومرارة الحزن العميق على ما كان: "أقل فشلاً" أو "أقل قسوة" ليس إطاراً للحل، ولا منظوراً للاستشراف على الإطلاق. واستحضار ما كانت عليه الحياة في هذه السنوات عجز عن التفكير خارج سجن الواقع، القريب والبعيد. والحقائق المجتزأة (صور القاهرة النظيفة، التجربة الديمقراطية، نمط الحياة الأقل تأزماً) هي في حد ذاتها حقائق لا يكذّبها مُنصف، لكن مسار "الدولة الوطنية الحديثة" التي أسسها محمد علي (1805) يظل هو موضوع السؤال الحقيقي، بمراحلها المتعاقبة: القمع، الإغواء، الاستقرار تحت الاحتلال البريطاني، التحلل.
وقد لا يكون استشراف المستقبل مما يُتوقع أن ينجزه عامة المنخرطين في عالم الإعلام الاجتماعي، ولكن خطوطه العريضة تمثل في كل المجتمعات أفكاراً تتسم بعمومية شديدة، يمكن لشرائح وسعة من المجتمع قبولها، والنظر إليها بشيء من الرضا. ومثل هذا الرضا ليس عملاً منهجياً يصبح فيه كل منخرط في النقاش "منتج خطاب"، بل هو، بالنسبة إلى كثيرين، حالة قبول علنية أو ضمنية. وعندما يصبح معدل تكرار صورة لشوارع القاهرة في العشرينات أو الثلاثينات والإشادة بها بعبارة واحدة منتشراً على مئات آلاف حسابات الإعلام الاجتماعي، فهذا مؤشر على تيبس عقلي مخيف.
وقد شهدت سنوات التسعينات من القرن الماضي تحولاً مصرياً مهماً، كان وجهه الظاهر
سيطرة الإسلاميين على النقابات المهنية في مصر، وكانت دلالاته الأكثر عمقاً أن الطبقة الوسطى التي جاء معظمها من فئات كانت حتى يوليو/ تموز 1952 من الفئات الفقيرة أو الأكثر فقراً، لكنها قرّرت بعد عقود من تحسن أحوالها تحت حكم "نظام يوليو 52" التصويت لخصوم "يوليو" التاريخيين.
ومع انطلاق "الربيع العربي"، انطلق منتجو خطاب كثيرون في إطلاق الحكم ونقيضه، فيما يتصل بتحديد ما أراد هذا الربيع هدمه من بنى الواقع، وفيما اعتبر بعضهم أن "الدولة الوطنية الحديثة" (التي تم استنساخ طبعتها المصرية عربياً بدءًا من منتصف القرن الماضي) لفظت أنفاسها الأخيرة، وأن "الربيع العربي" أطلق عليها رصاصة في الرأس، اعتبر آخرون أن "الربيع العربي" أراد إنقاذ هذه "الدولة" من "السلطة"!
وليس هذا النقاش نوعاً من الترف على الإطلاق، والتحالف الإقليمي الذي يرفع شعار: "إنقاذ الدولة الوطنية" يعرف بدقة ما الذي يريد "منعه" (لكن هذا التحالف للأسف لأسباب بنيوية فاشل بامتياز في معرفة ما تحتاج اللحظة التاريخية إلى فعله). وبهذا المعنى، نشاهد، لسنوات، فصولاً متتالية من عملية نكاية "مفهومة"، لكنها لا تبشر بخير، وحنين لا يخلو من مرارة إلى زمنٍ كان أقل فشلاً، ولكن لا سبيل إلى عودته للحياة.
وليس بين رموز هذا الحنين، على كثرتها، صورة لمصطفى النحاس باشا مثلاً، باعتباره رمزا مجيدا من رموز دولة القانون والتنافس السياسي الديمقراطي، أو خالد محمد خالد صاحب الدفاع التاريخي عن الديمقراطية تحت حكم جمال عبد الناصر، فضلاً عن أن تمتد مثل هذه الاستعادة الواعدة التي نتمناها إلى صعودٍ في إقبال القراء على مذكرات الأول أو مؤلفات الثاني. وتلك مجرد "عينة" لما ينقص هذا الحنين لما قبل يوليو 52 حتى يكون مثمراً، فالقيم التي يمكن إحياؤها من هذه الحقبة ليست قليلة، أما الحنين إلى صورها، أو صورتنا في مرآتها، فهو اعترافٌ بالعجز، يبعث على قلق مشروع على المستقبل.
وقد لا يكون استشراف المستقبل مما يُتوقع أن ينجزه عامة المنخرطين في عالم الإعلام الاجتماعي، ولكن خطوطه العريضة تمثل في كل المجتمعات أفكاراً تتسم بعمومية شديدة، يمكن لشرائح وسعة من المجتمع قبولها، والنظر إليها بشيء من الرضا. ومثل هذا الرضا ليس عملاً منهجياً يصبح فيه كل منخرط في النقاش "منتج خطاب"، بل هو، بالنسبة إلى كثيرين، حالة قبول علنية أو ضمنية. وعندما يصبح معدل تكرار صورة لشوارع القاهرة في العشرينات أو الثلاثينات والإشادة بها بعبارة واحدة منتشراً على مئات آلاف حسابات الإعلام الاجتماعي، فهذا مؤشر على تيبس عقلي مخيف.
وقد شهدت سنوات التسعينات من القرن الماضي تحولاً مصرياً مهماً، كان وجهه الظاهر
ومع انطلاق "الربيع العربي"، انطلق منتجو خطاب كثيرون في إطلاق الحكم ونقيضه، فيما يتصل بتحديد ما أراد هذا الربيع هدمه من بنى الواقع، وفيما اعتبر بعضهم أن "الدولة الوطنية الحديثة" (التي تم استنساخ طبعتها المصرية عربياً بدءًا من منتصف القرن الماضي) لفظت أنفاسها الأخيرة، وأن "الربيع العربي" أطلق عليها رصاصة في الرأس، اعتبر آخرون أن "الربيع العربي" أراد إنقاذ هذه "الدولة" من "السلطة"!
وليس هذا النقاش نوعاً من الترف على الإطلاق، والتحالف الإقليمي الذي يرفع شعار: "إنقاذ الدولة الوطنية" يعرف بدقة ما الذي يريد "منعه" (لكن هذا التحالف للأسف لأسباب بنيوية فاشل بامتياز في معرفة ما تحتاج اللحظة التاريخية إلى فعله). وبهذا المعنى، نشاهد، لسنوات، فصولاً متتالية من عملية نكاية "مفهومة"، لكنها لا تبشر بخير، وحنين لا يخلو من مرارة إلى زمنٍ كان أقل فشلاً، ولكن لا سبيل إلى عودته للحياة.
وليس بين رموز هذا الحنين، على كثرتها، صورة لمصطفى النحاس باشا مثلاً، باعتباره رمزا مجيدا من رموز دولة القانون والتنافس السياسي الديمقراطي، أو خالد محمد خالد صاحب الدفاع التاريخي عن الديمقراطية تحت حكم جمال عبد الناصر، فضلاً عن أن تمتد مثل هذه الاستعادة الواعدة التي نتمناها إلى صعودٍ في إقبال القراء على مذكرات الأول أو مؤلفات الثاني. وتلك مجرد "عينة" لما ينقص هذا الحنين لما قبل يوليو 52 حتى يكون مثمراً، فالقيم التي يمكن إحياؤها من هذه الحقبة ليست قليلة، أما الحنين إلى صورها، أو صورتنا في مرآتها، فهو اعترافٌ بالعجز، يبعث على قلق مشروع على المستقبل.